
نحن وَحْدَنا الذين وضعنا إسماعيل الأزهري الذي رفع علم الاستقلال في السجن، وأدخلنا إدريس جماع مستشفى المجانين وهو الذي كتب (أنتَ السماءُ بدتْ لـنا واستعصمتْ بالبُعدِ عنا)، وهو من قال: (أعلى الجمال تغار منا ماذا عليك إذا نـظرنا/ هي نظرة تنسى الوقارَ وتسعدُ الروحَ المعنىّ /دنـياي أنت وفـرحتى ومنى الفؤادِ إذا تَمَنىّ).. من هو المجنون بربكم؟ ومن العاقل؟ نحن قتلنا القرشي وشطبنا هيثم مصطفى وفصلنا الجنوب.
نحن قتلنا محجوب شريف الذي قال للشعب السوداني (إنت تلقى مرادك والفي نيتك) عندما سجناه وأصبنا رئته بالتلف.
الجاكومي يريد أن يجعل نخيل الشمال الذي يخرج رطباً وتمراً أن يثمر رصاصاً.
نحن برانا بنعملها في روحنا.
نحن فينا من باع السودان ومنتظر حقه (مسيرة) أو حق المسكول.
الحمد لله الذي جعل نهر النيل لا يمكن بيعه كقروض بنكية.
لو كنت مسؤولاً في التربية أو كنت أملك قراراً، كنت طرحت عبر الدراسة وعن طريق الخبراء وأهل الاختصاص وضع مادة عن الثقافة السودانية لتكون مقررة على طلاب الأساس والمرحلة الثانوية، في كل فصل من فصول تلك المراحل، مادة يدرس فيها الطلاب عن كرومة وسرور وخليل فرح، يدرسوا فيها عن الطيب صالح والصلحي والنور عثمان أبكر وصلاح أحمد إبراهيم ومحمد المكي إبراهيم ومحجوب شريف وحميد وعلي المك وعبد العزيز بركة ساكن والكاشف وإبراهيم عوض ووردي وعثمان حسين وعبد الكريم الكابلي.. هنالك جغرافيا شعبية واجتماعية، أهم من جغرافيا التضاريس، جغرافيا تعكس طبيعة الناس في المنطقة وتكشف ثقافاتهم، جغرافيا تعكس البيئة الإنسانية من حيث الدواخل وتدرس طباع الناس واهتماماتهم، تبحث عن من؟ وفي مَن شكلوا الوجدان السوداني وطبّعوه؟ فليس من المنطق أن ندرس طبيعة الأرض، ولا ندرس طبيعة الإنسان الذي يعيش فيها، نتحدّث عن الحيوان ولا نتحدّث عن الإنسان، نهتم بالمنتوج الزراعي ولا نقف عند المنتوج الإبداعي، بمثل هذه الثقافات يتوحد الجميع وتقوى الروابط، شخصيات مثل النعام آدم وإبراهيم موسى أبا وصديق أحمد وعبد القادر سالم وصديق عباس وعيسى بروي ومحجوب كبوشية وحسين شندي بتمثل جغرافيا طبيعية لحياة الناس، ولمشاعرهم ودواخلهم. دراسة الإنسان من حيث أمزجته وثقافاته، أجدى من دراسة الإنسان من حيث الوظيفة، والجيولوجيا والمادة.
الوزارة المعنية بذلك اسمها وزارة التربية والتعليم، يضعون التربية في الاسم قبل التعليم، وفي دراسة الثقافة تربية نحن نفتقدها، السودان يعملون جميعاً من أجل إزالته من الخريطة، يحاربونه ويحاصرونه ويتآمرون عليه.
من أجل أن يبقى السودان في الخريطة بحدوده الجغرافية المعروفة وتاريخه العظيم، لا بد أن يبقى السودان في وجداننا بنيله ونخيله وسهوله وهضابه وجباله ووديانه ومحمد ورديه وعثمان حسينه وهلاله ومريخه.
هنالك محاولاتٌ وحربٌ حقيقية لإزالة السودان من الوجدان ـ الحرب التي يمكن أن تزيلنا من الوجود هي الحرب الإعلامية ـ الحرب الثقافية التي تعمل من أجل أن نصل إلى مرحلة يكون فيها الطالب السوداني إذا أراد أن يعرف عاصمة السودان عليه أن يدخل (قوقل).
حفلات محمد الأمين في نادي الضباط كانت نموذجاً حقيقياً للوحدة، فهي تجمع كل أبناء السودان بمختلف ثقافاتهم وسحناتهم.
أغنيات البلابل في الإذاعة كانت حالات من لم الشمل العاطفي.
مباراة هلال مريخ كانت تمثل السودان، شكلاً وموضوعاً، إنّ الانصهار في ريال مدريد وبرشلونة وليفربول ومانشستر سيتي وبايرن ميونخ يجعلنا نتلف من حياتنا ونمسح أحلى مناقشاتنا الرياضية ـ العولمة هي ليس استقبال ثقافات الغير والذوبان فيها، العولمة هي القدرة على أن تفرض ثقافتك على العالم ـ نحن نمتلك الصمغ العربي وننافس به في الأسواق العالمية، نمتلك بمواصفات خاصة القطن، عندنا السمسم والنبق واللالوب والثروة الحيوانية والذهب، كل شئ سوداني هو مميز وعليه تنافسٌ عالمي، لماذا لا نفرض ثقافتنا عالمياً وهي ثقافة مختلفة، وهي حضارة من نوع خاص.
نحن نملك التاريخ وهو أمرٌ لا يمكن التنافس عليه ولا يمكن وجوده من العدم، فلماذا لا نملك الحاضر وهو تنافسٌ مفتوحٌ وأمرٌ مقدورٌ عليه، خاصةً إذا كنت تمتلك هذا التاريخ.
في تاريخنا كنا نشعل حرباً من أجل الرفق بالحيوان، عملها الملك بعانخي وحارب مصر من أجل ذلك، والآن نحن نلجأ إلى مصر كلاجئين لأنّنا نتحارب من أجل السلطة، ونتعارك من أجل الكرسي، ونفتح أبواب المؤامرات ضد أبناء الوطن، أصبحنا في وطننا نفتقد الكهرباء والماء والخبز والأمن، أصبحنا نفتقد الرفق بالإنسان.
في تاريخنا العظيم أعظم الثورات منذ الثورة المهدية وثورة اللواء الأبيض والثورات الشعبية الثلاث العظيمة، لتكون الأراضي السودانية الأكثر في العالم التي تفجّرت فيها ثورات من أجل الحرية والسلام والعدالة.
في تاريخنا البعيد، نحن وَحْدَنَا من أكرمنا المرأة وجعلناها ملكة عندما كان الآخرون يتعاملون معها كسبايا وجواري.
نحن نمتلك هذا التاريخ المُشرف فماذا نريد بعد ذلك؟
لا بد للأجيال الجديدة حتى نربطها بالوطن، في ظل الثقافات الواردة والمحفزة والمقدمة بصورة محسنة من أن نجعلها والحديث عن الأجيال الجديدة، تدرس عن صديق منزول وسبت دودو وأمين زكي وجكسا وكسلا والفاضل سانتو وماجد وجاد الله وقاقرين والدحيش وحامد بريمة وطارق وتنقا وهيثم والعجب وعزالدين الصبابي وعصمت الامتداد، هؤلاء هم من يربط بين الناس في السودان ـ هؤلاء هم من نفرح بهم ونسعد.
لا أعتقد أن هنالك فناناً قدم ثقافة الشمال أفضل من النعام آدم وصديق أحمد، وليس هنالك فنان قدم أدب المناصير وعواطفهم أفضل من عيسى بروي، كما لا يوجد أفضل من إبراهيم موسى أبا وعبد القادر سالم وصديق عباس استطاعوا أن يعمموا ثقافة كردفان وجمالها، وليس هنالك أبلغ من عمر إحساس وأحمد شارف في تقديم وجدان دارفور بلونيات موسيقية مختلفة، وما يحدث في الغرب يحدث في الشرق عند كجراي وحسين بازرعة وإسحاق الحلنقي وصالح الضي وإبراهيم حسين ويحيى أدروب.
إنّ الثقافة عندما تشكل الوجدان وتكونه يجب أن تُدرس، ويجب أن تنقل للأجيال الجديدة كمقررات دراسية في ظل الزحف الثقافي الخارجي، وعن طريق ثقافاتنا السودانية نكون أول خلايا المقاومة الداخلية ضد التعري الثقافي ونبني سدود التماسك والترابط والوحدة.
هذا السودان فقد وحدته وتمكّن من جسده داء التمزق والتشرذم والعنصرية، عندما فقدنا لمّتنا في شاي الصباح وصينية الغداء و(دافوري) العصر وشاي المغرب.
كان يلمنا برنامج صالة العرض وأشكال وألوان وعالم الرياضة وبرنامج ربوع السودان ودنيا دبنقا، في الإذاعة وبرنامج الصلات الطيبة وسهرة فرسان في الميدان وبدون عنوان والحقل والعلم وصحتك وصحة وعافية وبوادينا في التلفزيون.
عندما فقدنا القدرة على التجمع ثقافياً، تفرّقنا وتحاربنا.
كانت تطربنا جميعاً أغنية واحدة لمحمد وردي يسمعها كل الناس في الشمال والجنوب والغرب والشرق في وقت واحد.
اختلافاتنا كانت فقط في الأمة والاتحادي، والهلال والمريخ وفي نمشي بي وين؟ شارع الموردة أم الأربعين؟.. اختلافاتنا كانت في الجمعية التأسيسية، وصناديق الاقتراع لم تكن في ميدان الحرب والعراك.
نحن فقدنا وحدتنا عندما فقدنا ثقافتنا، فقدنا ترابطنا عندما جعلنا أهل البندقية هم مَن يقرِّروا لنا وهم مَن يُحدِّدوا مصيرنا ـ شهاداتنا ومُؤهّلاتنا أصبحت في (البندقية)، أنشطتنا ووظائفنا وحتى اجتماعياتنا أضحت مقرونة بالبندقية، بها نوظف وعن طريقها نحدِّد ونشكِّل ونقرِّر.
الأكيد أننا تراجعنا كثيراً، عندما تراجعت إذاعة أم درمان وتخلف تلفزيون السودان، وأصبحنا بلا مسرح ولا أدب ولا ثقافة، قلّ بشكل كبير أدب الروايات، وجفّت منابع الأغاني، وحلّت بدائل لهذه الوسائل لا تلتزم بالمهنية والقيم، مثل مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات، وهي كلها سوحٌ ومنابر تُقدِّم ثقافات غريبة علينا ولا نستعملها في الشأن السوداني إلّا في الصراعات والخلافات والشتائم والسباب، لذلك انتشرت الفتن وأصبحت العنصرية وسيلة من وسائل شحذ النفوس ضد الآخر.
المسرح السوداني كان يقدم مسرح الفاضل سعيد ومكي سنادة وتور الجر وأبوقبورة ومحمد شريف علي الذي كان وهو فرد لا يغيب عن الموسم المسرحي ويقدم لنا في كل موسم مسرحية، كان هو الذي يكتبها وهو الذي يخرجها وهو الذي يمثلها.
كان المسرح السوداني بخير حتى عهد فرقة الأصدقاء التي تقدم لنا فلسفة مسرح يُجسِّد العمق والرمزية.
كان مسرحنا السوداني يكتب له حمدنا الله عبد القادر وعمر الطيب الدوش وهاشم صديق ويحيى فضل الله وعماد الدين إبراهيم وعادل إبراهيم محمد خير، انظر إلى المسرح السوداني الآن لن تجد فيه غير مناوي وكيكل والجاكومي ومحمد الأمين تِرِك وجبريل إبراهيم وشيبة ضرار.
نحن أمة كان نجوم المجتمع عندنا هم صلاح أحمد إبراهيم وجمال محمد أحمد ومنصور خالد وعلي المك، كان نجومنا هم أحمد سليمان ضو البيت والفاتح الصباغ وليلى المغربي وعمر الجزلي وإسحاق عثمان ونجاة كبيدة.
خلافاتنا كانت لا تتجاوز الكلام عن ضربة جزاء مشكوك في صحتها، حسبت أم لم تُحسب.
خلافاتنا لم تتجاوز النقاش حول مصطفى النقر وسامي عز الدين.
لكن متى كان ذلك؟ كان ذلك عندما كان في السياسة والسلطة يمثلنا محمد أحمد المحجوب ويحيى الفضلي والشريف يوسف الهندي وعمر نور الدائم.
شوارع الخرطوم كانت أنظف من أستديوهات mbc كان عندنا حديقة للحيوان ومسرح للعرائس، وحصة للمكتبة وجمعية للأدب.
أطفالنا كان يكتب ويلحن لهم بابا فزاري وقاسم الحاج.. أمّنا كانت ماما عائشة، وجدنا الجد شعبان، وأبونا عبد العزيز عبد اللطيف، وعمنا العم مختار (الفكي عبد الرحمن) وقبل ذلك العم أبابيل (إسماعيل المليك)، ثقافة الطفل كان هنالك مختصون فيها مثل سليمان حسين ويحيى شريف ويوسف عبد القادر.
كان عندنا أدب للأطفال ومسرح للأطفال، فسلمنا أطفالنا الآن لألعاب البلي إستيشن والموبايل ولمسلسلات الكرتون.
السودان كانت الحكومة فيه تهتم بمهرجانات الثقافة ومنها خرج مصطفى سيد أحمد وخوجلي عثمان وعثمان الأطرش وعبد المنعم الخالدي، وقد ظهر ذلك في حكومة مايو، حكوماتنا كانت مهتمة بالدورات المدرسية ومنها خرج سامي عزالدين والرشيد المهدية وعادل أمين وعمر النقي ـ صراعنا كان صراعاً من أجل الثقافة، لم يكن صراعاً سياسيّاً من أجل الكراسي.
صراعنا كان بالثقافة ولم يكن بالبندقية.
…
متاريس
من بين الذين أرتب للكتابة عنهم الفنان الراحل عيسى بروي، ذلك الفنان الذي فرض لونية خاصّة من الغناء على كافة الناس، أدخل ثقافة منطقته وأهله لتصبح ثقافة لكل الناس.
عيسى بروي أظنه قدم أطول ملحمة عاطفية غنائية في السودان وربما في العالم عندما قدم أغنية (أمونة بنت الشيخ حمد)، هو فرض علينا مواصفات فتاة الأحلام من خلال (زينوبة)، تقول من النور هي مخلوقة ما ربنا شال من أحلى صفات ردم فيها.
حتى فناني الأغنية الحديثة فرض عليهم أن يغنوا (اشتقت ليك) و(ليك أسبوعين ما جيتنا).
هذا فنان عبقري بطريقته ـ أمثال عيسى بروي يجب أن يُدرس فنهم.
سوف أقف اليوم على وجه التحديد مع أغنية عيسى بروي أظنها تمنح تذكرة الإياب لكل الذاهبين، لكل المغادرين تجبرهم على العودة (أنا قت له وين ماشي؟ محمد وين ماشي؟ قال لي مكان نفسي/ مكان فارقت أنفاسي/ مكان زولي ومكان ناسي/ مكان تاج عزة فوق رأسي/ مكان الريدة نبراسي/ مكان لا قلنا لا قالوا، لا همّاز ولا واشي).
عيسى بروي لامن يترتر ليك بهذه الكلمات لو كنت في آخر الدنيا تشوف ليك طيارة أو حتى ركشة وترجع بيها.
فلوران وين؟
الأغنية نهديها لفلوران ولا نزيد!!
قد نجد مدرباً مثل فلوران أو أفضل منه، لكن لن نجد إنساناً مثل فلوران، فلا ترهقوا أنفسكم بالبحث.
الشئ الذي لا أحبه هو أن تصبح الأشياء الجميلة مجرد (ذكريات).
نحن لا نعرف أن نحتفظ بالجمائل والروائع للأسف الشديد إلا في ألبوم (الذكريات).
نملك قدرة فائقة أن نجعل إنجازاتنا (ذكريات).
لم أملك القدرة لأن أكتب عن فلوران مودعاً ـ لأن فلوران باقٍ فينا.
حتماً سأعود إن شاء الله لعيسى بروي، أشعر أن هذا الفنان تخلل في لون جلاليبنا.
أما فلوران فهو أيضاً لنا عنه عودة.
أعتقد أنّ (مراوح) البلد كلها الأيامات دي شَـغّالة (مناحة). وأروع من أبدع في ذلك الضرب من الفنون هو الفنان مصطفى مضوي.. وهو أيضاً فنان سوف نعود للكتابة عنه.
…
ترس أخير: ولا أزيد، لأنّ الوجعَـــة لا تحتمل أكثر من ذلك..!