منوعات

همهمات في رواية فَريجُ المُرَر، للكاتب والروائي حامد الناظر (2)

يبات علي فايد

روح تصوف، وتماسك سردي لا يفلته الكاتب، وعودة لروح الشعر في سرد حامد

لا أوشك أهتدي إلى عنوان للكتابة فيه تأثرا وإعجابا، حتى يسحبني عنوان آخر بلطف وقوة ناعمة، وأنا مستسلم لدهشة الإيحاءات التي يهبها هذا العمل الجميل الجليل.

الفصل الأول 3، سمته التصوف، فأول ما يبتدر به الراوي (الطيب) قصته هي الاستغفار لصدِيقٍ “غفر الله لصديقي حسن، ها أنذا يكاد يقتلني الملل في طرقات دبي”، وحامد الناظر ههنا يضعنا أمام تساؤل عن ماهية حسن، وإن أوحى إلينا ظنَّ أن حسن هو من رمى به إلى هذه المدينة ترغيبا ربما. المدينة التي يقتل فيها الملل الطيب، وعلَّنا نتعرف على حسن في قادم الصفحات. ويقيني أن الاستغفار لمن ورطك في أمر لا يعجبك من لباب التصوف.

ثم يتجلى هذا التصوف في الرواية بصورة أكبر في وصف دبي وقاطنيها، ثم الخلاصة التي يختم بها الطيب انطباعه في حديثه مع نفسه “دبي مدينة لكل الناس، الأبيض والأسود، العفيف والفاجر، حيوات مختلفة تعيش في حياة واحدة، التقيُّ والماجنُ يعملان في مكانٍ واحد، جنبًا إلى جنب، ثم حين يجنُّ الليل يذهب كلٌّ إلى محرابه ليصلي صلاته التي يعرف، ثم يطلِعُ عليهما صباحٌ واحد، والله وحده العالم بمن ضلَّ ومن اتَّقى”.

إنه لتصوف عميق، أن يشكَّ في عفة العفيف، وتقوى التَّقي، وبالمقابل أن يظنَّ الصلاح في من كان ظاهر عمله فجورا، ومعلوم كسبه مجونا، ولعلَّه تمهيد لما هو آتٍ في طيات هذه الرواية من قراءات للواقع بصورة تختلف فيه رؤية الكاتب عن تصور العاديين.

ثم إنَّ في تساؤل الطيب محدثا نفسه “وما يفعل مثلي فيها؟!” مستغربا، ثم تنوير ذاته لذاته “افعل كما اعتدت أن تفعل يا صديقي، لن تطلب منك [يعني المدينة دبي] أن تكون شيئًا آخر، بل ستعرِّفك إلى نفسك أكثر، أنت بحاجة إلى هذا أكثر من أي شيء..” الكثير الكثير من استكشاف الذات أوان ابتلائها وهي في مهب الريح هو برأيي ما عناه الكاتب. 

يلتقي الطيب بُعيد صلاة من صلواته التي دأب على المداومة عليها في مساجد دبي مذ وصوله، وبعيد صلاة العشاء تحديدا بأول إنسان يأنس له، فالناس في المدينة هذي غير معتادين على إفشاء السلام، أو الاهتمام بالغريب.

نعم، وجد على باب المسجد سودانيا بشوشا، كما يصفه حامد، وقل إن شئت الطيب “يدير [السوداني] مسبحةً طويلة بين يديه”، وإن في لفظ بين يديه ما هو أعظم من مجرد التسبيح بيد واحدة، فإنها حركة اشتهر بها المتصوفة دون غيرهم من حاملي السبح، فالرجل في هذا التصوير لا يسبح بها التسبيح المعتاد، وإنما يديرها بين يديه كلتيهما دلالة على التقدير والاهتمام والالتصاق، محدثا بها (بظني) أصواتا تعرف عند المتصوفة دون غيرهم في آخر تسبيحهم.

ثم ها هو صاحبنا يصفه الكاتب بقوله “فرك المسبحة بين يديه وقرَّبها من أنفه، شمَّها بنشوةٍ ثم أدخلها في جيبه، وأخرج علبة السجائر…”.

وإن هذه الحميمية بين السبحة وهذا الصاحب الجديد نجده في موضع آخر، تحديدا في الفصل الأول 4، “شمَّ المسبحة بنشوة كعادته، ثم أدخلها في جيب جلبابه الفضفاض، وتحسسها من فوق الجيب، وكأنما يطمئن أنها استقرت في المكان الصحيح..”. وروح التصوف كبير في هذه الرواية، ولعلنا نلتمسه في أكثر من موضع، وأكتفي أخيرا بصورة ربما تكررت للمرة الثانية، وهي روح التجمُّل، والتصبُّر، فكما يرفض الطيب في الفصل الأول 2 إلحاح أبي التوأم مرافقتهم إلى بيتهم، أو إيصاله إلى وجهته التي يبتغي، خشية إحراج الرجل، ها هو الطيب حين يسأله صاحبه عن أحواله، وسبب وجوده في دبي، يحدثه عن نفسه لكنه يستحي أن يقول له أنه عاطل عن العمل منذ وقت طويل، ليدهمه صاحبه مستفهما ربما، أو طالبا أن يوضح له حاجته للعمل قائلا “لم تأتِ إلى هنا بحثًا عن عملٍ إذن؟

لتكون الإجابة “ربما، لكن إن وجدته ستكون حالي أفضل..”.

ليشد الصاحب هذا على معصم الطيب بودٍّ، ربما مطمئنا، بصورة لطيفة ثم يقول “لا تقلق، دبي سوق كبير، والسوق كما نقول في السودان “قدح النبي”، واليد التي تمتد إليه لا ترتدُّ إلا بلقمتها. ولكم أن تعجبوا أن يتيسر للطيب سكن وعمل دون سؤال!

أخيرًا ظنِّي يقين أن حامدا كاتب قدير، فهو قادر على الإمساك بتفاصيل سرده بقوة، لا يهمل شاردة ولا ورادة، السرد بين يديه كالنص الشعري، ليس فيه ما هو مهمل غير مدرج في خدمة الرواية، عجبت لقوة ملاحظته، وهو يقول في الفصل الأول 4 متحدثا عن صاحبه، صاحبَ المسبحة: 

– اليوم سآخذك معي في جولة..

– إذا كان ذلك المقهى، فأرجو أن تؤجل الأمر قليلا، جرعة الأمس لا يزال طعمها في حلقي..

– لا لا، تلك المقاهي لا تروق لي في النهار، النهار في دبي للعمل فقط..

صمتَ قليلا، ارتشف ما بقي من الفنجان دفعةً واحدة، ثم أخرج علبة السجائر، واستلَّ منها بأصابع يده اليسرى سيجارة لم يشعلها..

– سأعرفك اليوم على بعض أسواق دبي، نأخذ جولةً طويلة، نتعرف على الأسعار، والمنتجات الجديدة، فرصة لأن ترى البلد، ما رأيك؟

– جيد..

أشعل سيجارته عند باب الفندق وانطلقنا.

انظروا إلى عدم إهمال حامد السيجارة التي استلها صاحبه ثم إشعالها بعد ذلك في باب الفندق في استحضار لواقعة استلال السيجارة وعدم إهمالها بل، وعدم الخوض في الكثير من التفاصيل التي فهمناها لاحقا، من مثل أن يكون استخراج السيجارة ذلك كان في مكان يمنع فيه التدخين، أو أن صاحبه أراد أن يتنفسها في مكان أكثر فسحة، أو إنها إحدى عاداته صباحا، …

عودة لروح الشعر في سرد حامد

“جثت على ركبتيها ، ثم انحنت أمامي لتضع فنجان القهوة، رأيت الشق الذي يفصل بين نهديها فطار عقلي، ثم تدلّى صدرها الممتلئ يزاحم بعضه على الفتحة الضيقة في أعلى كنزتها السوداء حتى كاد أن يفلت ليقع على حجري، تهيأت لأتلقفه بيديَّ، وهي لا تبالي، كأنها تمعن في ذلك، ارتعشتُ حين رأيته يهتز، كان يحدثني، وبدأت أصغي بعينيَّ وحواسي كلها، ثم قبل أن يُكمل، كانت قد رفعت عينيها في وجهي بنظرة مركزة لتسدد ضربتها القاضية، تسمرتُ لبرهة وابتلعتُ ريقي بصعوبة، فابتسمتْ في وجهي وأيقنت أنها نالت مني..”

 

نواصل إن شاء الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى