
في توقيت بالغ الدقة، يستعد الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة للقيام بزيارة رسمية اليوم إلى القاهرة، بدعوة حملها إليه السفير المصري في الخرطوم، بعد أسابيع من الحراك السياسي والعسكري المتسارع داخليًا وخارجيًا. ولا يمكن قراءة هذا الحدث بمعزل عن السياقين القبلي والبعدي المحيطين به، في ظل توازنات دقيقة تتداخل فيها قضايا الحرب والسلام، والسيادة الوطنية، والعلاقات الإقليمية المتشابكة.
على مستوى السياق القبلي، جاءت هذه الدعوة الرسمية بعد زيارة رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء حسن محمود رشاد إلى بورتسودان يوم الثامن من أبريل 2025، حيث التقى البرهان في لقاء تناول تطورات المشهد الأمني السوداني والدعم المصري المعلن لوحدة السودان واستقراره، من دون أن يتضمن تقديم دعوة رسمية في حينه. غير أن تطور الأحداث لاحقًا، خاصة بعد مؤتمر لندن الذي انعقد في 11 أبريل 2025 وشهد خلافات حادة بين أطرافه، بين داعمي الحلول المنحازة للمليشيا وبين الأصوات الدعم للحكومة و الجيش السوداني، إضافة إلى تحفظات بعض الأطراف الدولية على نهج الحل العسكري، أفشلت مخرجاته وأفرزت مناخًا جديدًا دفع القاهرة إلى اتخاذ خطوة بدعوة البرهان لزيارة مصر.
أما في السياق الدولي، فإن مؤتمر لندن كان محاولة لفرض مقاربات ضاغطة على السودان تحت غطاء “العملية السياسية المدنية”، غير أن الانقسامات التي برزت داخل المؤتمر كشفت عن تحديات تواجه الرؤى الدولية، خاصة مع تعثر جهود الوساطة التي تقودها “إيقاد” والاتحاد الأفريقي.
وفي السياق البعدي، فإن زيارة البرهان تأتي وسط تحولات ميدانية مهمة؛ فالجيش السوداني، وفقًا لتقارير ميدانية نشرتها صحيفة “السوداني” في 20 أبريل 2025، يحقق تقدمًا لافتًا في جبهات العاصمة وولايات كردفان، فيما تواجه مليشيا الدعم السريع، بحسب تحليلات مركز “أفريقيا للدراسات الاستراتيجية”، حالة من الانهيار العملياتي، وتحاول تعويض ذلك باستخدام تكتيكات استنزافية مثل الطائرات المسيرة (من طراز TB2) التي زودتها بها جهات إقليمية، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة الأخير، لضرب محطات الكهرباء والجسور الحيوية. لكن هذا السلاح، على الرغم من خطورته، لم يغير في مسار الحرب الاستراتيجي الذي بات يميل لصالح الجيش، ما يجعل من الزيارة المرتقبة خطوة سياسية محسوبة تهدف إلى تعزيز مكاسب الميدان بمواقف دعم إقليمي قوي.
في هذا الإطار تكتسب القاهرة أهمية خاصة؛ فمصر، التي تربطها بالسودان روابط تاريخية وأمنية، تنظر إلى استقرار جارتها الجنوبية باعتباره جزءً لا يتجزأ من أمنها القومي ومن هنا، فإن استقبالها للبرهان بدعوة رسمية كاملة المراسم يحمل رسائل قوية للداخل والخارج بأن وحدة السودان وأمنه لا يمكن مقايضتهما، وأن دعم المؤسسات الوطنية أولى من الرهان على قوى مسلحة خارجة عن القانون.
في الزيارة المرتقبة، من المتوقع أن تتطرق النقاشات إلى قضايا متعددة تهم الأمن القومي للبلدين. وفي مقدمة تلك القضايا، سيكون التنسيق العسكري والأمني بين القاهرة والخرطوم في ظل التهديدات الإقليمية والتحديات الأمنية في البحر الأحمر وليبيا. كما يُحتمل أن يبحث الجانبان التعاون في تأمين الحدود المشتركة وتبادل المعلومات الاستخباراتية حول التحركات المشبوهة التي قد تهدد استقرار المنطقة. وهنا يجب الإشارة لخطاب البرهان أول أمس الذي سبق الزيارة والذي تحدث فيه عن عقيدة هجومية للجيش لحماية الأمن القومي للبلاد إلى جانب وضع حد لهجمات المسيرات التي ظلت تستخدمها المليشيا وداعميها، لفرض التفاوض.
من جهة أخرى قد تطرأ النقاشات حول سبل تعزيز الدعم السياسي الإقليمي للسودان، بما يضمن وحدة الدولة السودانية في مواجهة الضغوط السياسية الدولية. ويُرجح أن تتضمن المحادثات آليات لتنسيق المواقف في المحافل الدولية بهدف دعم شرعية الدولة السودانية ومؤسساتها الوطنية، فضلاً عن تفادي أي محاولات لفرض حلول قد تضر بمصالح السودان، بجانب ضمانات انسياب المساعدات الإنسانية بالنظر إلى التنسيق الذي تم مؤخرًا مع الأمم المتحدة.
تعد التحديات المتعلقة بالبحر الأحمر أحد الملفات البارزة التي قد يناقشها البرهان والسيسي، في ظل التنافس الإقليمي والدولي في تلك المنطقة الحيوية. من الممكن أن تشمل المشاورات ترتيبات أمنية جديدة لحماية المصالح المشتركة وضمان عدم التغلغل الخارجي غير المرغوب فيه.
كما يُتوقع أن يُناقش الملف التاريخي المرتبط بسد النهضة، بما يتماشى مع التحديات الحالية التي تواجه البلدان. ومع استمرار هذا الملف في التأثير على العلاقات بين الدول الثلاث، قد يتم التطرق إلى سبل الحفاظ على الحقوق المائية للأطراف.
إضافة إلى ذلك، قد يبحث الطرفان ملفات إعادة الإعمار، خاصة في ظل التدمير الكبير الذي لحق بالبنية التحتية السودانية نتيجة الحرب. ومن المحتمل أن تطرح القاهرة دعمها في مجال صيانة وتأهيل المشاريع الحيوية مثل الكباري والجسور ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، إلى جانب تعزيز التعاون في مجالات أخرى مثل زيادة سعات الربط الكهربائي.
إن الزيارة في مجملها، بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، تحمل أبعادًا استراتيجية تهدف إلى تثبيت الرئيس البرهان كرمز للشرعية الوطنية السودانية، مع تأكيد دور مصر كضامن رئيسي لاستقرار السودان والمنطقة. وهي فرصة لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين في مواجهة التحديات العسكرية والسياسية المتصاعدة. ومع انحسار الحرب وتقدم الجيش السوداني، تسعى الخرطوم إلى تأكيد الانتقال أمام القوى الإقليمية والدولية، بينما تبقى مصر هي الحليف الأهم في هذه المرحلة الدقيقة.
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 28 أبريل 2025م [email protected]