
ديوان الشعر السوداني حافل بقصائد تعد من عيون الشعر العربي، ولو قيض لقراء العربية في العالم الواسع أن يقرأوها بتمعن لوضعوها في مصاف “الخرائد”، وهي اللآلئ البكر التي لم تثقب. من بين هذه القصائد اخترت ثلاث، أظنها من عيون الشعر السوداني والعربي.
الأولى لشيخ الشعراء عبد الله الشيخ البشير، وهو من مواليد عام 1928 ودرس بالمعهد العلمي ثم بالجامعات المصرية، وعمل معلما للغة العربية والتربية الإسلامية بالمدارس الثانوية، وكان رئيسا لاتحاد الادباء السودانيين
قصيدة “البحث عن بيت شعر” واحدة من أجمل روائعه، وموضوعها ظاهر من اسمها، وكتبها في لحظة بين اليقظة والهذيان، أو كأنه كتبها في الحلم، ثم نقلها للواقع، يروي رحلته في عوالم صوفية عجيبة ولحظة المخاض بحثا عن بيت شعر، هو كان كل غايته من تلك الرحلة الروحية..”علي حدِّ السنا أمهيتُ سيفي ..فرقَّتْ شفرتاه كما ابتغيتُ، وودعتُ القرى الأولى وشيكاً…وما استصحبتُ إلا ما انتويتُ، فها أنا ذا يُعادي بي مِراحاً..بشطِّ الغيبِ مِرِّيحٌ كُمُيتُ، رصائعهُ مصابيحُ سهاري ..لهنَّ خواطرُ الحُذَّاقِ زيتُ”
ويمضي في رحلته المباركة هذه بحثا عن بيت شعر، لا يستسلم للمغريات، ولا يرضى بالبدائل مهما كانت قيمتها، له هدف واحد فقط..” وقد عرضتْ ليَ الأبراجُ شتَّى..عِـراضاتٍ ولكنّي أبيتُ، ونصَّتْ لي معارجَ من دخانٍ..مــنوَّهةً ولكني انتحيتُ، فلو كانت جناحاً من عقيقٍ..له لمعُ البوارقِ لارتقيتُ، وحِرتُ فدلَّني نجمٌ لموح.. علي مسرى قوافلِهِ سريتُ، ولاحت لي نوافذُ باهراتٍ..فجُزتُ من النوافذِ وامّحيتُ، وأوفي بي على زبدٍ موشىً.. على فقَّاعِهِ طرباً مشيتُ، وناداني مِنَ المجهول صوتٌ.. بدأتَ، وكنت أحسبَنُي انتهيت!، وَصَيَّرني الحنينُ إليه معنًى…بِلا مبنًى وغبتُ وما اختفيْت”
رفض كل المغريات لأنه كان يسعى وراء هدف محدد وغرض عنده أسمى من الدنيا…
ولا يرتاح الشاعر حتى يصل نهاية رحلته وينال مبتغاه..” هبطْت وأجنُحِي أدغال نخلٍ.. إذا غنَّت عصافِرها انتشيت، فحامت صادحات النيل حوْلي..تغلِّفُها المَواسم فاحتفيْت، وأعلَمُ أنها جاءتْ عِجالاً..تقاضي رحلتي وأيا وأيت، فقالت لي: تراك خضيرَ حقلٍ..ترفُّ ندًى فقلت لها: ارتويت، فَحَطَّت ثم طارت ثم قالت:..تُرَى، ما جدَّ؟ قلت لها اقتنيت، وشيْت لها وأعماقِي صِحاحٌ..بأسقامِ الصبابة إذ وشيت، فلما أمَّلت نقَرَتْ ربابِي..فهازجها من الأوتار بيت! ..”
القصيدة الثانية نالت حظا أفضل في الانتشار وعرفها الناس لانها خاطبت مقام الموت، فاستخدموها في النعي والرثاء، وهي قصيدة “نحن والردى” للشاعر صلاح أحمد إبراهيم. نشرتها مجلة القاهرة الثقافية في التسعينات، فأدهشت كثير من قراء الشعر في مصر.
في ظني أن هذه القصيدة هي أغنية للحياة، وليست للموت، فصلاح هنا يتحدى الموت بأفضل ما في الحياة، الشجاعة والبذل والعطاء والكرم والقناهة والزهد..
..” يا منايَا حَوِّمِي حول الحِمَى واستعرضِينا واصْطفِي، كلَّ سمحِ النفس بسَّامِ العشيات الوفي، الحليم العِفِّ كالأنسام روحًا وسَجَايا، أريحي الوجه والكف افترارًا وعطايا، فإذا لاقاك بالباب بشوشا وحفي، بضميرٍ ككتاب الله طاهر، اُنشبي الأظفارَ في أكتافه واختطفي، وأمانُ الله منا يا منايا، كلما اشتقتِ لميمونِ المُحيَّا ذي البشائر .. شرّفِي، تجدِينَا مثلًا في الناس سائرْ، نقهرُ الموتَ حياةً ومصائرْ”
وهو يواجه الموت بشجاعة وبسالة منقطعة النظير..وبإيمان عميق، لعله يوازي إيمان عجائز البصرة الذي يضرب به المثل…
” ما الذي أقسى من الموت؟ فهذا قد كشفنا سرَّه، واستسغنا مُرَّه، صدِئتْ آلاتُه فينا ولا زلنا نُعافِر، ما جزعنا إن تشهَّانا ولم يرضَ الرحيلْ، فله فينا اغتباقٌ واصطباح ومَقِيلْ، آخرُ العمرِ، قصيرًا أم طويلْ، كفنٌ من طرف السوق وشبرٌ في المقابرْ..” وبا لها من قناعة..
لا يكتفي صلاح بذلك، لكنه وقف يعرض بعصاه فوق الموت..يتحدى..ويفاخر..ليس بمال وجمال ولا مقتنيات ولا مظاهر ثراء، بل بما هو أعظم من ذلك “.. هذه أعمالُنا مرقُومةٌ بالنور في ظهر مطايا..عبرت دنيا لأخرى تستبق، نفذ الرملُ على أعمارنا إلا بقايا…تنتهي عمرًا فعمرًا وهي نِدٌّ يحترق، ما انحنت قاماتُنا من حمل أثقال الرزايا..فلنا في حَلَكِ الأهوالِ مسرى وطُرق، فإذا جاء الرَّدى كشَّر وجهًا مكفهرا، عارضًا فينا بسيفٍ دموي ودرق..ومُغيرا،، بيدٍ تحصدُنا، لم نُبدِ للموتِ ارتعادًا أو فَرَقْ، نتركُ الدنيا وفي ذاكرةِ الدنيا لنا ذكرٌ وذِكرًى، من فِعالٍ وخُلُقْ، ولنا إرثٌ من الحكمةِ والحلمِ وحبِّ الكادحين، وولاءٌ، حينما يكذبُ أهليه الأمين، ولنا في خدمة الشعب عرق…” وهل هناك فخر أعظم من هذا “ولنا في خدمة الشعب عرق” إنه فخر العظماء المناضلين أصحاب العطاء بلا من ولا أذى، لأنه عطاء للشعب والوطن.
ثالثة القصائد للشاعر محمد سعيد العباسي ابن الشيخ محمد شريف نور الدائم أستاذ الإمام المهدي وشيخه، وجده الشيخ الطيب شيخ الطريقة السمانية، درس بمصر ودخل الكلية الحربية، لكنه قطع دراسته وعاد للسودان، وظل يحمل محبة كبيرة لمصر ويتذكر ايامه بها، زارها بعد غيبة طويلة ..وكتب هذه القصيدة ..” أقصرتُ مذ عاد الزمانُ فأقْصَرا || وغفرتُ لَما جاءني مُستغفِرا، ما كنتُ أرضى يا زمانُ لَوَ ٱنني || لَم ألقَ منكَ الضاحكَ المستبشرا، يا مرحباً قد حقّق اللهُ المنى || فعلَيَّ إذ بُلِّغْـتُها أن أشكُرا، يا حبّذا وادٍ نزلتُ، وحبذا || إبداعُ مَن ذَرَأ الوُجودَ ومَن بَرَا، مِصْرٌ، وما مصرٌ سوى الشمسِ || التي بَهَرَتْ بثاقب نورِها كلَّ الورى، ولقد سعيتُ لَها فكنتُ كأنّما || أسعى لطيبةَ أو إلى أُمِّ القُرى، وبقيتُ مأخوذاً وقيّدَ ناظري || هذا الجمالُ تَلفُّتاً وتَحيُّرا، فارقتُها والشَّعرُ في لون الدجى || واليومَ عُدتُ به صَباحاً مُسْفِرا”
ويتحسر الرجل على سنوات شبابه الضائعة، وها هو قد عاد لمصر شيخا سبعينيا ..” سبعون قَصّرتِ الخُطا فتركنَني || أمشي الهُوينَى ظالعاً مُتَعثِّرا، مِن بعد أنْ كنتُ الذي يطأ الثرى || زَهواً، ويستهوي الحسانَ تَبختُرا، فلقيتُ من أهلي جحاجحَ أكرموا || نُزُلي وأولوني الجميلَ مُكرَّرا، وصحابةً بَكَروا إليَّ وكلُّهم || خَطَب العُلا بالمكرمات مُبَكِّرا، يا من وجدتُ بحيّهم ما أشتهي || هل من شبابٍ لي يُباع فيُشترى؟ ولَوَ ٱنّهم ملكوا لَما بخلوا بهِ || ولأرجعوني والزمانَ القهقرَى، لأظلَّ أرفل في نعيمٍ فاتَنِي || زمنَ الشبابِ وفُـتُّـهُ مُتحسِّرا..”
ويتذكر العباسي أصحابه وأحبابه بمحبة ووفاء نادرين ..” إني لأذكرهم فيُضنيني الأسى || ومِنَ الحبيب إلَيَّ أنْ أتذكّرا، لم أنسَ أيامي بِهم وقَدِ انقضتْ || وكأنّها واللهِ أحلامُ الكَرَى، كذب الذي ظنّ الظنونَ فزفّها || للناس عن مصرٍ حديثاً يُفترى، والناسُ فيكِ اثنان شخصٌ قد رأى || حُسْناً فهامَ به، وآخرُ لا يَرَى..”
هل هناك محبة أكثر من هذي..” والناس فيك إثنان..شخص قد رأى حسنك..فهام به، و’خر لا يرى..”
لو أدرك أهل مصر قيمة هذه القصيدة وما عكسته من محبة، لكتبوها بماء الذهب وعلقوها على أبواب القاهرة ، القديمة والجديدة، وربما زانو بها جدران القلعة وسور مجرى العيون.