مقالات

في ذم التحالف مع الجنجويد- (٤)

د. أحمد عثمان عمر (*)

تمخض التحالف السياسي مع الجنجويد، عن مشروع دستور وقعته القوى المتحالفة في نيروبي، بما فيها جزء من الحزبين الكبيرين التقليديين في السودان، اللذان يتحملان الجزء الأكبر من وزر تجربة دولة ٥٦ التي أصبحت مليشيا الجنجويد الإرهابية الآن ضدها وهي التي خدمتها في حال انحطاطها. وبما ان الدستور هو أسمى وثيقة تشريعية للإرادة السياسية للقوى المعنية به، والتشريع هو عملية سياسية من حيث الجوهر، يصبح فحص هذا الدستور ومعرفة سماته الأساسية مدخلاً لمعرفة ما يقود إليه مثل هذا التحالف المعيب مع قيادة رأسمالية طفيلية وقاعدة من البروليتاريا الرثة. ولا مناص هنا من التعرض لبعض ملامح هذا الدستور، لأن دراسته كاملا تحتاج إلى مساحة أكبر، ونوجز ذلك فيما يلي: 

١- تبدأ الوثيقة (الدستور) بالزعم في ديباجتها بأنها صادرة عن شعوب السودان صاحبة السيادة على مصيرها وأرضها، وفي هذا إقرار ضمني بأن من له حق إصدار مثل هذه الوثيقة هو الشعب السوداني وحده لأنه صاحب السيادة. والوثيقة الآن صادرة عن تحالف سياسي بين الجنجويد والحركة الشعبية بالأساس، إنضمت له قوى لا وزن سياسي لها لإكمال الصورة. وغني عن القول أن هذا التحالف لا يمثل شعوب السودان. فإن كانت الحركة الشعبية تمثل جزءا من هذه الشعوب، فالجنجويد عدو صريح لها، وهما معا لا يملكان شرعية تمثيل شعوب السودان وإصدار وثيقة دستورية بإسمها، ولهذا لا شرعية لهذه الوثيقة بإقرار ديباجتها بمن له الحق في السيادة وإصدار التشريعات الدستورية. 

٢- زعمت الوثيقة أن السودان دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية، وهذا الزعم يفصح عن مشاكل متعددة. فهو ضمنيا يؤكد أن علمانية الدولة وحدها غير كافية من حيث حاجتها للتعريف، ومن حيث ان الدولة العلمانية من الممكن ان تكون استبدادية وشمولية، ومن حيث أن العلمانية لا بد ان تقرن بالديمقراطية حتى تكون مقبولة. وفي تقديرنا ان وصف الدولة بالديمقراطية هو الأهم، وبكل أسف هذه الوثيقة لا تؤسّس لدولة ديمقراطية. فالوثيقة نفسها أتت بوسائل غير ديمقراطية لأنها لم تشرع من قبل هيئة دستورية منتخبة، ولم تصدر بموجب استفتاء، مما يعني عدم صلاحيتها من حيث التشريع لقيام سلطة ديمقراطية، ويجعل أي سلطة تقوم عليها ذات شرعية مبنية على قوة السلاح لا على شرعية ديمقراطية، ويكفي أنها وثيقة صادرة عن الجنجويد لتعرف مدى ديمقراطيتها. فوق ذلك وعلى الرغم من وجود نصوص جيدة تتحدث عن الحقوق والحريات، إلا أنها غير كافية لحماية الشعب في مواجهة سلطة الجنجويد الذين سيسيطرون على تكوين اجهزة الدولة بما فيها الأجهزة العدلية.

٣- الوثيقة نصت في نص متناقض على مبادئ فوق دستورية في حين قررت أن الدستور هو القانون الأسمى ولا يجوز أن تسمو فوقه اي تشريعات أو مصادر. والصحيح هو أن المبادئ المذكورة مبادئ دستورية غير قابلة للنقض والتعديل، وكان المفروض ان ينص على أن هذه المبادئ جامدة ولا يجوز تعديلها وكفى. لكن من الواضح أن الحركة الشعبية شمال قد نجحت في فرض ما ورد بكتيبها المنشور عن المبادئ فوق الدستورية على الجنجويد، كما فرضت عليهم العلمانية وحق تقرير المصير، وأسست بذلك لإنفصال حتما سيحدث، لأن التعايش في دولة سلمية مع الجنجويد مستحيل، بحكم طبيعة هذا المكون الاجتماعية، من قيادة تشكل جزءا أصيلا من الرأسمال الطفيلي، وقاعدة رعوية لا علاقة لها بمنظومة الدولة الديمقراطية الحديثة، هي بروليتاريا الرأسمالية الطفيلية الرثة، في ظل شح الموارد والصراع حولها. 

٤- نصت الوثيقة الديمقراطية المزعومة على فترة انتقالية مقسومة لقسمين: أ. فترة ما قبل تأسيسية تستمر ما استمرّت الحرب، أي من الممكن ان تستمر لخمسين سنة قادمة إذا استمرّت هذه الحرب كحرب الجنوب السابقة، ب. فترة تأسيسية انتقالية لمدة عشر سنوات. ولك ان تتخيل هذه الدولة الديمقراطية التي سيحكمها الجنجويد لمدة ربما تستمر لنصف قرن وأكثر، أو على اقل تقدير لعشر سنوات زائدا الفترة التي تستمر فيها الحرب!!!

٥- والكارثة الكبرى، هو النص على ان الجنجويد زائد الحركة الشعبية شمال والحركات المسلحة الموقعة على ميثاق الجنجويد المعلن في نيروبي، تشكل نواة الجيش الجديد، مما يعني ان اداة القمع الرئيسة التي تحتكر العنف وتكرس سلطة الدولة على المواطن ، هي في الجوهر الجنجويد. ولك ان تتأمل هذه الدولة الديمقراطية، التي تنص وثيقتها الدستورية المزعومة أنها ستضع استراتيجية لتصفية اقتصاد الريع العشائري أو الرأسمالي الطفيلي!! ولا ندري كيف ستقوم قيادة الجنجويد بتصفية نفسها ونشاطها التجاري يقوم برمته على التطفل، فوق أنه يعتمد على التهريب والنهب ومردود الارتزاق وتأجير البندقية. فمن الواضح ان الوثيقة تدعو هذه القيادة لتصفية نفسها والعمل ضد مصالحها وهذا مستحيل!!

والواضح هو ان الجنجويد يرغبون في تأسيس سلطة مستدامة ما دامت الحرب، ليزدادوا عشر سنوات فيما بعدها. وهذا يقيض لهذه المليشيا الإرهابية ، إفلاتا” تاما” من العقاب مع استحالة في محاسبة قيادتها المجرمة التي سترتقي إلى مستوى السلطة السيادية والتنفيذية في دولة الجنجويد، وستحصل حتما على الحصانتان الدستورية للسلطة التنفيذية والسيادية ، وتصبح بحكم الواقع والممارسة فوق القانون والمساءلة، مهما ورد من نصوص عن العدالة والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب. 

فمصير مثل هذه النصوص والنصوص التي تتحدث عن الحقوق والحريات في دستور الجنجويد، هو نفس مصير الباب الثاني في دستور العام 2005 سليل نيفاشا المقدسة، الذي اصدرته الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني (الحركة الإسلامية المجرمة ومن تبعها)، والذي في ظل سريانه قمعت هبة سبتمبر 2013، وقدم الشعب السوداني مئات الشهداء، وكانت حينها بندقية الجنجويد موجهة إلى صدور الشعب المنتفض، كما هي الان موجهة ضد المواطن السوداني. 

وكما لم يتغير المؤتمر الوطني المحلول بعد إصدار دستور نيفاشا الذي اعتبر دستور تحول ديمقراطي، لن تتغير طبيعة مليشيا الجنجويد الإرهابية. فمثلما استمرّ في نهب المواطنين وقمعهم ونزح فائضهم الاقتصادي وإفقارهم وتحويل الفساد لفساد مؤسسي شامل، ستستمر قيادة الجنجويد الطفيلية في تهريب الذهب عبر كينيا ولا احد يستطيع منعها بعد أن تصبح سلطة غير شرعية حملتها البندقية إلى السلطة، ولن توقف نشاطها كوكيل للمشاريع الاستعمارية الإقليمية ، ولن توقف نشاطها التجاري في تجارة الصادر والوارد مركز النشاط الطفيلي المتحكم في مدخلات الإنتاج ، ولن توقف الارتزاق من بيع بندقيتها في الخارج، ولا عن النهب والسلب في الداخل وترويع المواطنين، ولن تتحول إلى تنظيم ديمقراطي بأية حال من الأحوال ، ولن يصبح لها برنامج سياسي وطني لمجرد أنها بصمت على برنامج الحركة الشعبية شمال، لأنها بحكم تكوينها من بروليتاريا رثة أنتجها رأسمال طفيلي ووظفها عند التكوين، ورفع قيادتها إلى نادي الرأسمالية الطفيلية لتواصل نفس الفئة توظيفها، وهي فئة اجتماعية لا سبيل لأن تتحول لتنفي ذاتها وتتنازل عن مكتسباتها، لتبني دولة ديمقراطية تمنعها من ممارسة الحياة . وفي حدود علمنا المتواضع، لم يسبق لقوى اجتماعية ممارسة الإنتحار ونفي نفسها بنفسها وتدمير سبل عيشها من اجل إسعاد الآخرين ، فالقوى الاجتماعية تتبع مصالحها وتدافع عنها. كذلك لا يمكن ان تقوم اي قوى اجتماعية بالتوبة عن الجرائم التي ترتكبها طالما ان هذه الجرائم هي وسيلة كسب عيشها وتراكم ثرواتها لمن يثري، علما ان المحاسبة يجب ان تسبق التوبة بعد استيفاء العقوبة ومنع الإفلات من العقاب. فالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب ليست سيئات يرتكبها أفراد ويتوبوا عنها طمعا في ثواب أخروي ، لأنها تقع ضد المجتمع والإنسانية جمعاء وتستلزم المحاسبة والعقاب ولا تسقط بالتقادم. 

ومفاد ما تقدم هو ان التحالف مع الجنجويد في تشيؤه الدستوري، يحول المليشيا الأرهابية إلى سلطة فوق المحاسبة، ويقود لإفلات قيادتها المجرمة من المحاسبة حتماً ، ويمكنها من اجهزة القمع في الدولة ، ويحملها فوق رقاب الناس بقوة السلاح لعشر سنوات وأكثر . كذلك سيعزز نشاط قيادتها الطفيلي مثلما عززت السلطة نشاط الطفيلية الإسلامية في السابق، ومثلما تعزز نشاط السلطة الكينية، وتمكنها من الاستمرار في خدمة المشروع الاستعماري الإقليمي والحفاظ على علاقاتها المشبوهة ومن مواصلة الارتزاق. 

لذلك لا مناص من التمسك برفض هذا التحالف المعادي لشعبنا العظيم ، الذي يحاول تسويق مليشيا مجرمة أسست كأداة لقمع الشعب، واستمرت كذلك حتى لحظة كتابة هذا المقال، كمؤسسة مناضلة ترغب في بناء السودان الجديد الديمقراطي ودولة السلام. من يفعل ذلك حتما يرى جنجويد آخرين في خياله الجامح، لا المليشيا المجرمة التي تمشي بين الناس. 

والمطلوب هو التمسك بشعار الثورة الصحيح ، ” الثورة ثورة شعب والسلطة سلطة شعب والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل” و ” يا برهان ثكناتك أولى مافي مليشيا يتحكم دولة”. 

(*) كاتب وباحث قانوني

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى