مقالات

وجه آخر للوطن

رؤى تاج السر

لم تكن الحرب مجرد نزوحٍ من مكانٍ إلى آخر، بل كانت رحلة قسرية نحو اكتشاف عميق للذات، وللوطن على حد سواء. فجأة، وجد كثير من السودانيين أنفسهم في ولايات لم يسبق لهم أن زاروها، رغم أن المسافة الجغرافية بينها وبين موطنهم الأصلي قد لا تتجاوز بضع ساعات. ما كان بعيدًا أصبح قريبًا، وما كان مجهولًا بدأ يتجلى بتفاصيله الصغيرة.

في الأيام الأولى، ساد الخوف والحنين، وعلت أسئلة الهوية والانتماء. لكن شيئًا فشيئًا، بدأت الحواجز تتلاشى، وبدأت ملامح الألفة تُرسم من جديد. تقاسم الناس الخبز والماء، والسقف والذكريات. من لم يغادر الخرطوم قط، أصبح يعمل في مدني أو يزرع في الفاو، وآخرون افتتحوا متاجر صغيرة في نيالا وكأنهم أبناء تلك الأرض منذ الأزل.

لقد أُجبرنا على التلاقي، فحدث الانصهار . تعرّف الناس على عادات جديدة، لهجات مختلفة، أكلات، أزياء، وأغاني. ذابت الصور النمطية، وظهر جمال التنوع. تشكّل أمامنا مشهد سوداني غني ومُدهش، لوحة حية من الفُسيفساء الاجتماعية.

غير أن هذا التداخل لم يَخْلُ من تحديات. بعض الأسر لم تحتمل هذا التغيير المفاجئ. سادت مشاعر من النفور، وزادت الفجوة بين أفراد البيت الواحد. ونسينا -أو تناسينا- أن النفوس إذا تصافت، فإن البيوت تتّسع للمئة، وأن الضيوف رزق، فكيف إذا كان الزائر من بني جلدتك؟ بعضنا لم يحتمل اختلاف الآخر، رغم أن اختلافه هو ذاته ما يُغنينا ويُثري نسيجنا الوطني.

ومع كل هذا، لا يمكن إنكار الجانب المشرق. كثير من الولايات السودانية انتعشت، دبت فيها الحركة من جديد، وتحوّلت من أطراف مهمّشة إلى مراكز اقتصادية حيوية. عادت روح الإعمار لا بتدخل الدولة، بل بإرادة الناس، وهمتهم، وقدرتهم على التكيّف.

لقد علمتنا هذه التجربة المريرة أن الاختلاف لا يجب أن يُخيفنا، بل أن يُلهمنا. أن السودان لا يُختصر في مدينة واحدة، بل يمتد في نبض إنسانه، في كرم أهله، في لهجاته، وموروثه، وأحلامه.

ربما أعادت هذه الأزمة تعريف معنى الوطن في وعينا الجمعي. فالوطن لم يعد فقط هو مكان الميلاد، بل هو كل بقعة استقبلتك بالدفء، وكل يد امتدت إليك دون سؤال.

الوطن هو الإنسان السوداني، حين يلتقي بأخيه، ويتعرف عليه من جديد، ويكتشف فيه جزءًا من نفسه.

إن السلام الحقيقي لا يصنع فقط على طاولة المفاوضات، بل يُبنى أولًا في القلوب. في قدرتنا على التعايش، وعلى التقدير، وعلى أن نرى الجمال في اختلافنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى