مقالات

أزمات وإشكاليات قطاع الزراعة بأنظمة الري المحوري في ظل الحرب

عبد الله مهدي "عبدو مهدي" (*)

آثار الحرب التي طالت كل قطاعات الإنتاج، كان من أوفرها لا نصيباً وتضرراً قطاع الزراعة التي تتبع نظم الميكنة الزراعية الحديثة (الري المحور مثالاً) إذ تنفرط حلقة دورة الإنتاج (التحضير الزراعة الري والتسميد الحصاد التسويق والبيع) لعدة عوامل؛ 

فبدءًا من فقدان معظم الشركات الإستثمارية بالمجال للأوراق والمستندات الخاصة بملكيتها للأراضي المستصلحة “المملوكة والمستأجرة” من شهادات بحث وأسماء عمل وسجلات ضريبية وغيرها من متطلبات السند القانوني والإثباتات المطلوبة من قبل هيئات ووزارات الدولة ممثلة في وزارتي الزراعة والإستثمار ومصلحة الأراضي، للبت في نزاعات الملكية ومراجعة العقود وإستبيان سريانها وتوراريخ إنتهاء التصاديق.

ما يعيق سير العمل بكثير من المشاريع الكبيرة المستثمرة حكومياً أو عبر متنفذين بالدولة منذ بدايات حقبة استخدام أنظمة الري الحديثة وتقنيات الميكنة مطلع الألفيتين، في بلد شاسع المساحات الخصبة والقابلة للإستصلاح وحصته من مياه النيل تقدر (18.5 مليار متر مكعب) والمستخدم منها في كل القطاعات الزراعية والخدمية لا يتجاوز 3.5 أي ماهو أقل من نسبة 10‰ إذ وبرغم هذه الوفرة في المياه النيل والأنهر المتفرعة منه والموسمية، فعوض حفر الترع وإستخدام مياه النيل للري، نجد الإستنزاف واسع النطاق لمخزون المياه الجوفية بما يجاوز 70٪ من إجمالي الإستهلاك. 

فرؤوس أموال شركات القطاع خاص كالتي تتبع ل(جياد والسهم الذهبي والخندقاوي وشركة زين وغيرها) 

والمشاريع الضخمة من حيث الإنتاجية وجودتها مثل (JLB والشركة الصينية للأعلاف ومشروع دال ومشاريع أخرى مملوكة لمجموعة مستثمرين قطريين وسعوديين وإماراتيين ومن دول غير خليحية أخرى كسوريا والأردن وتركيا وباكستان) يذهب كل إنتاجها صادراً ولا عائد محلي من ناتجها بسبب سياسات وزارة الإستثمار والزراعة المتوددة بل المتذللة للإستثمارات الأجنبية والمذلة والمبددة للمحلية من المستثمرين الوطنيين.

وحتى المشاريع المشتركة ومتعددة الجنسيات، والتي تشارك الدولة بنسبة من ملكيتها مثل (الشركة العربية للأعلاف وتالا والروابي والراجحي) فعصف بها الفساد المالي وعدم الكفاءة الإدارية ولكون معظم تلك المشاريع أصلاً قامت لقصد غير الإستثمار بالزراعة بل لتشجيعه وطمأنة وإزالة مخاوف المستثمرين المحليين للخوض في مجاله والمنافسة التي ترفع قيمة الأراضي. 

أما المشاريع ذات المساحات الصغيرة في حدود (120 فدان والتي تنطبق على معظم الحقول الإنتاجية المزروعة بالري المحوري) وخاصة المشاريع المستأجرة منها.

هذه بعض من الإشكاليات الإجرائية للمشاريع الإستثمارية في ظل إرتجالية المواقف القانونية وأحكامها التي تصدر عن خارج النصوص المحتكم إليها في قضايا مماثلة. إضافة لإشكاليات غير قانونية يلتجئ فيها لأعراف المناطق المقامة بها المشاريع، مثل الرضى الأهلي والتعويضات والمسؤولية الإجتماعية في إتاحة فرص لأبناء المناطق المجاورة بالعمل لتلافي موازعات وإشكاليات أمنية مهددة مثل إنتشار وشيوع ظاهرة المجموعات الإحترافية للسرقات. 

وثمة الإشكاليات التقديرية لمآلات الظروف الراهنة وإستصحابها في إعداد دراسات للجدوى، وعدم الفحص والتحليل المسبق لأنواع التربة لقياس درجة ملوحتها وإستخلاص المعالجات الممكنة لتحسينها موائمةً لظروف نمو المحصول. ومن إشكاليات المعالجات الخاطئة للتربة مثل حرق المحاصيل ذات العائد القليل قياساً بتكاليف حصادها، والتي تزرع قصد إمتصاص وتخفيف ملوحة التربة (قصب أب سبعين والجُرُم التسالي والذرة) إذ يتم إحراق المحصول بالأرض تقليلاً لأعباء الحصاد وقصد مكافحة نمو النباتات مع المحصول اللاحق، فيزيد ذلك تكاليف مرجأة بالمكافحة اليدوية الدورية والحوجة لإضافة عناصر لتخفيف الكربون المتغلغل بالتربة بعد عمليات التحضير (الحراتة بالخلخال والهرو وإعادة التسوية القصابية) فبدل تخفيف الأعباء، تزيد كلفة المعالجة اللاحقة لضرور إضافة عناصر صغرى وكبرى وأحماض قلوية وأخرى قاعدية من كبريتات أمونيوم ويوريا فوسفيت وهيومك آسيد وغيرها من الأسمدة المحببة والسائلة ذات التفاعل القاعدي والإمتصاص الورقي وعبر الجذور، إضافة لمبيدات الحشائش والنجيليات والطفيليات كالعسلة والفطريات وغيرها من مسببات الأمراض. وكذلك إشكاليات المياه وتنفيذ إنزال الآبار بدون دراسات وقياسات لكشف أعماق المياه الجوفية وكفاية مخزونها ومدى ملوحتها والمعالجات الممكنة لها، خاصة في الآبار التي يتجاوز عمقها 30 قدم فأكثر، في كثير من مناطق نهر النيل ذات التضاريس شبه الصحراوية والشمالية الصحراوية تماماً والإشكالات الفنية في عمليات إنزال أسطوانيات الضخ (مواسير الكيس) والتسربات التي تحدث نتاج عوامل جيولوجية مثل صلابة وصلادة القشرة الأرضية أو هشاشتها الزائدة المؤدية لتهدمات وإنهيار الآبار، وعيوب التركيب والتوصيل ببعضها أو قلة جودتها من حيث الصناعة بحيث لا تتحمل ضغط الدفق العالي عند الضخ بالطلومبات الغطاسة ذات الموتورات التي يتجاوز عزمها التشغيلي 60/150حصان.

وجانب آخر من المعوقات ماثل في توقف معظم شركات حفر وتركيب وإنزال الآبار السطحية والغطاسة، وكذلك موردي آليات الحصاد، ومعظم الشركات الموردة لأجهزة الري المحوري مثل (شركة Valley و Zimmatic وAfko والحصيني) ومغادرة أغلبها لسوق العمل بسبب ما تكبدته من خسائر جراء الإستيلاء على مستودعاتها ومخازنها في الخرطوم اثناء فترة الصراع الدائر منذ أكثر من عام). وذات الأمر لموردي الآليات الزراعية الكبرى (New Holland وCLAAS الألمانية والشركة الفرنسية Frentec) فما تمكنت من إخراجه من العاصمة كان القليل من المعدات التي لا تغطي إحتياج السوق من قطع غيار ومعدات صيانة، كما أن فقدانها لسجلات التأمينات ما ورطها في مسؤوليات وإلتزامات الصيانة الدورية وخدمات ما بعد البيع التي بات التنصل منها توجه جميع القطاعات والشركات العاملة بالحقل. 

ومع إرتفاع سعر الدولار الجمركي ل(1000جنيه) الذي أثر على حركة الإستيراد، ما جعل الكثير من آليات الري ومعدات الحصاد تتوقف في أعطال يطول أمد إصلاحها بسبب عدم توافر الإسبيرات رغم دأب الفنيين والصنايعية على توليف قطع غيار من آليات أخرى عبر أعمال الخراطة وإعادة التشكيل.

ولجانب إشكاليات التشغيل ثمة إشكالية تجمع بين العاملين معاً وتجد حلولها السهلة بإستبدالها عمل الآليات ونظم الميكنة بالرجوع للعمالة اليدوية، والتي تكابد بيئة عمل شاقة ومضنية بلا واجبات عمل محددة؛ فالكثير منهم يستغلوا لغير التشغيل والصيانة في أعمال النظافة اليدوية للتخلص من الأعشاب الدخيلة، وأعمال النثر اليدوي للأسمدة الكيميائية الضارة عالية الخطورة دون وسائل حماية – الأحذية والبذلات الواقية ولا حتى ما يحمي الأيدي والأعين والانف عن إستنشاق تلك السموم – إذ يحملون جوالات تتراوح أوزانها من 25/50 كيلوجرام يجوبون بها مساحات تتراوح بين 120/150 سيراً على الأقدام، في درجات حرارة تتجاوز 45 وتقارب 50 درجة. ودون عقود عمل ولا ضمان إجتماعي من التسريح والإستغناء الجائر عن الخدمات وبلا مستحقات مالية لما بعد إنتهاء الخدمة ولا تأمين صحي ولا حتى تأمين شروط السلامة ببيئة العمل الخطرة من إقامة في غرف التشغيل التي تحوي طبلونات موصلة بكوابل تنقل جهد الضغط عالي الخطورة للتيار الكهربائي(400Hz) وتستغل كغرف معيشة للطبخ والنوم ومساحاتها لا تتعدى(4أمتار طولاً وعرضاً) ومع إنتشار الحشرات كالعقارب والعناكب السامة والثعابين وعدم توافر أدوات إسعافات أولية ولا أمصال ولا حتى توافر مركبات عند حدوث الإصابات لنقلهم بسرعة لأقرب المستشفيات لتلقي العناية الصحية.

مع الإجحاف في زيادات الأجور مسايرةً لغلاء المعيشة، أو حسب المنصوص عليه بالعقود، وبلا حوافز أو بدلات عن الإيجازات لمن لا يستطيعون المغادرة وزيارة ذويهم في مناطق محاصرة من جبهات القتال خاصةً المنحدرين من غربي البلاد والمناطق التي يستغرق السفر إليها بواقع الحال ما يزيد عن الإسبوع لو تمكن قاصدها من الوصول سالماً دون تعرض من كلا جانبي الصراع لأسباب إثنية. وما من نصير، فحتى عندما كان ثمة قانون عمل ومحكمة خاصة بالقضايا، لم نسمعاً يوماً عمن حقق نصراً أو جنا تعويضاً أو نال مستحقاته، لتشجيع المفصولين جوراً وتعسفاً للإلتجاء للعدالة، إذ لا إنصاف بل محض إنتقاص من الوقت والجهد والمال بتبديده في متابعة قضايا خاسرة تنتهي بمن حالفهم الحظ بالإمتثال للتسوية والتراضي. 

وبعد كل ذلك، تبدر إشكاليات عدم إستقرار الأسعار وزيادات مدخلات الإنتاج ما يزيد كلفة الحصاد وكساد السوق في كثير من الفصول، وخاصةً الخريف، إذ تخرج معظم المواشي لمناطق (البطانة) سعياً للكلأ ما يجبر التجار للتخزين لفترات طويلة تتلف الأعلاف بالبلل والرطوبة ما ينقص قيمة المحصول، أما فصلي الشتاء والصيف ومناسبات الأعياد (الأضحى) فتكون أسعار السوق المحلي أفضل حالاً إذ تتراوح أسعار بالات الرودس زنة 50كيلو، والأقل طلباً في السوق (4000/5000) والبرسيم – داخل الحقل يتراوح بين (6000/7500) ما يعادل (225/210دولار للطن) حسب جودة المنتج.

 

(*) كاتب وصحفي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى