
إن مجرد زيارتك لمدينة القضارف، شرق السودان، في فصل الجفاف، يجعلك تدرك مدى الطاقة الشمسية المهدرة دون استفادة منها في هذه الولاية الممتدة والمعطاءة، أرض السحب والأمطار التي لا يشبهها شيء في هذا البلد، وحين تزورها في الخريف، ستسأل نفسك عن السبب الذي يجعل هذه الولاية تعاني الأمرين من العطش، وهي تملك هذا المخزون الاستراتيجي من ماء السماء، وحين تزورها في الشتاء ستدرك تماماً، أن لهذا الفصل سحره وروعته التي لا تضاهى في ولاية القضارف.
أنت على موعد مع ولاية الفصول الأربعة الساحرة.. حين يأتي بك الزمان ذات خريف إلى هذه الولاية، وحين تمس عصا الطبيعة هذه الأرض السوداء الساحرة، حينها ستصبح كل يوم على وقع الخضرة وحبات المطر المتساقط والغيوم، هو ذاته “الجو الأوروبي” الذي يطلقه السودانيون على أوقات الغمام ورزاز المطر، تمنحك إياه قضارف الخير في هذا الوقت من الزمان، ويكفي في ولاية القضارف أن تقف في أي مكان، لترى حوارات الأرض، تصاعدها وهبوطها، تلالها ووديانها، تغازلها شوارع الأسفلت المتهالكة، وتضفي عليها لمسة تكاد تحس انعكاساتها مع الخضرة والماء الذي يسرسر في الجداول المنتشرة على مد الزمان والمكان، وكأنه عاشق يطوق خصر القضارف الرقيق.
ومثلما أن الطاقة الشمسية مصدر مهدر من مصادر الولاية، فإن طاقة الهواء التي تتميز بها الولاية بدورها إحدى الكنوز التي لم يفطن إليها أحد، بالرغم من أن أغنياتنا تبتهج بوصف “إعصار المفازة اللي للعيون كتاح” لوصف أحدهم بالقوة، ولم يتطرق إليها عقل لتكون إلى جانب الطاقة الشمسية في صف الانتظار الطويل، وفي الخاطر الطواحين الهولندية الممتدة على مد البصر والتي تمد مزارع الأبقار وبيوت الناس هناك بالطاقة والماء، وتوظف مورداً سهلاً وصحياً، لذلك نبقى نحن مفتونين بالبعيد، في حين أن كل شيء بين أيدينا بسهولة ويسر.
قادتني خطاي كثيراً ووحيداً، لأعتلي قمة أحد الجبال المنتشرة بكثافة في مدينة القضارف، جلست لأتأمل المكان من علٍ، وطفقت أخطط لنفسي قيام مزارع حديثة، وأوزع عليها طواحين الهواء، ونقل التجربة الهولندية، ثم منظر ألواح الطاقة الشمسية يعكس ضوء الشمس نهاراً، ويبدد ظلمة الليل مساءً، فتضج الأماكن بالحياة الدائمة، بدلاً من تركها للهوام ودواب الأرض عندما تنزلق الشمس في سرداب المغيب، وأجول ببصري لأضع منتزهاً عائلياً على تلك الربوة، وحديقة حيوان هناك، وفنادق على تلك التلة المطلة على طريق القضارف دوكة القلابات، ثم أنشيء بحيرة في هذا المكان الغائر لتجميع هذا الكم الهائل من مياه الأمطار، ليكون بحيرة تغذي شرايين المواسير المتيبسة بفعل غياب الماء الذي جعل من “القضارف لازم تشرب” هاشتاق رائج تصرخ به الحلوق العطشى من أبناء المدينة..!!
المشاريع ليست رخيصة التكلفة، ولكن القضارف ليست فقيرة مال، بل فقيرة شجاعة من رأس المال المسجون في خزانات الرأسمالية، يمارسون بها مشاريع خجولة وسط الأحياء، فيبني أحدهم قصراً ويعجز عن السور فيصنعه من الزنك، مثل سائر الأبنية البسيطة في المدينة.
ولعلني أتساءل دائماً عن: لماذا لا تخطو حكومة الولاية خطوة جادة في اتجاه نقل تجربة هولندا وطواحين الهواء، وألمانيا وبقية دول العالم مع الطاقة الشمسية، ولماذا لا تطرق أبواب اليابان لصناعة بحيرة تتجمع فيها مياه الأمطار الهائلة فتخرج المدينة من عنق زجاجة العطش هذا؟؟
لماذا لا تستقيد الولاية من وجود منظمات كثيرة وداعمة لصناعة مستقبل جديد للولاية بدلاً من الاكتفاء بحفر بئر يحشد له الناس وهو في متناول أدنى رأسمالي قيمة في القضارف، لماذا لا توقف الولاية مسائل “العدس والأرز والزيت” وتتوجه إلى مشاريع كبيرة تخدم إنسان الولاية وكل الزائرين للمدينة، لاتنتعش القضارف، ولتحجز مكانها بين المدن العالمية الأكثر خضرة وجمالا..
ستبقى القضارف فردوس السودان المفقود، والجنة التي ضلت طريقها إلى الأرض..!!