مقالات

الفشقة ومفارقة التنمية

عبد الجليل سُليمان 

تُعد منطقة الفشقة (الكبرى والصغرى) من أغنى وأخصب الأراضي الزراعية في السودان، وتتجاوز مساحتها الصالحة للزراعة 600 ألف فدان. لسنوات طويلة، ظلت هذه المنطقة بؤرة نزاع حدودي مع إثيوبيا، وأرضًا خصبة دون سيادة سودانية فعلية، نتيجة للمطامع المستمرة من قبل الإثيوبيين وتعديهم المتواصل على أراضيها وزراعتها في أوقات الضعف التي كثيراً ما تعتري الدولة السودانية؛ نتيجة لعدم الاستقرار السياسي. 

في عام 2021، طرحت دولة الإمارات العربية المتحدة مبادرة استثمارية ضخمة تهدف إلى تحويل الفشقة إلى (محور زراعي–اقتصادي كبير)، بشراكة ثلاثية بينها وبين السودان ومزارعين إثيوبيين.

ورغم ما بدا من جدوى اقتصادية كبيرة وفرصة تنموية نادرة، إلّا أن السودان رفض المبادرة، ما فتح الباب لتساؤلات حيوية حول البدائل والفرص الضائعة.

أولاً: ما الذي تضمنه المشروع الإماراتي المقترح؟: 

جاء المشروع – في وقت غير مناسب – أعقاب تحرير السودان لأراضي الفشقة عسكريًا، متزامنًا مع اشتعال حرب تيغراي وإضعاف الوجود الإثيوبي غير القانوني في المنطقة. 

واقترح المشروع استثمار الأراضي الزراعية المستعادة على أساس شراكة تضمن للسودان السيادة الكاملة على الأرض، مع دخول الإمارات كممول رئيسي، وتخصيص نسبة تشغيلية محدودة لمزارعين إثيوبيين سابقين – كانوا يزرعون في المنطقة، ضمن عقود إيجارية خاضعة للقانون السوداني.

وقد بلغت القيمة الاستثمارية المقدّرة للمشروع أكثر من 8 مليارات دولار، تشمل استصلاح الأراضي، إنشاء بنية تحتية (طرق، كهرباء، شبكات ري)، ومرافق زراعية حديثة، مع التزام بتشغيل أعداد كبيرة من أبناء ولاية القضارف.

ثانياً: الجدوى الاقتصادية المتوقعة من المشروع للسودان: 

كانت النتائج المحتملة ستكون مذهلة حال التنفيذ:

زيادة إنتاج الفشقة الزراعي الحالي إلى أكثر من ثلاثة أضعاف خلال خمس سنوات فقط.

بحسب بيانات 2021، كانت الفشقة تزرع بوسائل تقليدية مساحات تقارب 340 ألف فدان، بإنتاجية لا تتجاوز 1.5 طن للهكتار في الذرة، و400 كجم للهكتار في السمسم.

يتيح المشروع إدخال الزراعة الحديثة والميكنة والري التكميلي، وبالتالي فإن الإنتاجية كانت ستقفز إلى حدود 4 أطنان للهكتار في الذرة، وأكثر من 700 كجم للهكتار في السمسم، إضافة إلى إدخال محاصيل نقدية عالية القيمة مثل فول الصويا، الخضروات، وزهرة الشمس.

بالتالي، كان السودان سيحصل على دخل زراعي إجمالي يتجاوز 1.2 مليون طن سنويًا، بدلاً من حوالي 400 ألف طن حاليًا، مع عوائد تصديرية تصل إلى مئات الملايين من الدولارات سنويًا.

إضافة إلى العوائد غير المباشرة الضخمة، مثل: 

توفير بنية تحتية حديثة.

توظيف مباشر لعشرات الآلاف من الشباب. 

نقل تقنيات زراعية. 

إنعاش اقتصادي البلاد وشرق السودان وولاية القضارف. 

ثالثاً: لماذا رُفض المشروع؟: 

جاء الرفض من منطلق سيادي فقط، حيث اعتبر كثير من السياسيين والأصوات القومية أن إشراك مزارعين إثيوبيين مُجددًا –حتى ولو بصيغة تعاقدية– بمثابة تراجع عن “تحرير الأرض”، وأبدوا مخاوف جمة من احتمالية خلق بوابة خلفية قد تفتح مطالبة إثيوبية مستقبلية بالفشقة.

بعض المسؤولين السودانيين طالبوا بترسيم نهائي للحدود قبل أي شراكة، فيما اعتبر آخرون أن الإمارات تجاوزت سيادة السودان يتقديمها اقتراحًا يشمل طرفًا غير معترف به في الأرض (المزارعون الإثيوبيون) دون مشاورة كاملة مع أجهزة الدولة.

رابعاً: ما الذي كان يمكن فعله بدلًا عن الرفض؟: 

بدلًا من القطيعة الكاملة، كان بالإمكان القبول بالمشروع وفق شروط سيادية واضحة:

النص الصريح على أن الأرض أرض سودانية خالصة، وأن كل من يعمل بها يعمل بعقد إيجاري تحت القانون السوداني.

تقييد مشاركة الإثيوبيين بنسبة تشغيل فقط، دون حقوق تصرف أو توريث أو ملكية.

إلزام الإمارات بتشغيل نسبة لا تقل عن 70٪ من السودانيين في كل مراحل المشروع.

وضع المشروع تحت إشراف حكومي مباشر، مع رقابة شعبية ولجان فنية، لضمان عدم انزلاقه نحو استغلال سياسي أو جغرافي.

مثل هذه الشروط لم تكن لتلغي جوهر المبادرة، بل كانت ستعيد تشكيلها بما يخدم السودان ويحمي مصالحه.

خامساً: إمكانات الري والبستنة في الفشقة: 

من أبرز الميزات التي لم يُستثمر فيها بعد في الفشقة هو إمكانية الري التكميلي من:

نهر عطبرة الذي يمر على بعد كيلومترات فقط.

نهر ستيت الموسمي.

روافد بحر سلام القريبة من الحدود الجنوبية الشرقية.

بإمكان السودان إنشاء قنوات ري سطحية أو استخدام مضخات متوسطة لزراعة مساحات كبيرة بمياه الأنهار، خاصة في موسم الشتاء، لزراعة محاصيل مثل القمح، العدس، الخضروات، والذرة الشامية.

كما أن الفشقة، بتربتها الغنية ومناخها الرطب، تصلح لزراعة بستانية ضخمة، تشمل:

 المانجو – الموز – الباباي في جيوب رطبة قرب الأنهار.

 الخضروات الموسمية مثل الطماطم، البصل، البامية، الخيار، الفلفل.

الحبوب الزيتية كالسمسم وزهرة الشمس كمحاصيل نقدية تصديرية.

سادساً: الفشقة والأمن الغذائي الخليجي – فرصة استراتيجية مهدرة: 

لو تم قبول المبادرة الإماراتية ، لكانت الفشقة تحوّلت إلى مخزون غذائي استراتيجي لدول الخليج، تمامًا كما هو الحال في مشاريع القمح الإماراتية في كازاخستان. 

بالموقع الجغرافي القريب، والتكلفة الزراعية المنخفضة، والطقس المناسب، فإن الفشقة قادرة على لعب دور محوري في تحقيق الأمن الغذائي الخليجي المشترك، وبذلك تُصبح السودان لاعبًا رئيسيًا في الكثير من الملفات، وهذا يعني:

 شراكات استراتيجية طويلة الأمد.

 تمويل خارجي ضخم مستدام.

 نفوذ سياسي واقتصادي متزايد في الخليج.

لقد كانت مبادرة الإمارات للاستثمار الزراعي في الفشقة فرصة نادرة ضاعت على السودان بسبب الرؤية الضيقة التي فصلت بين السيادة والتنمية، دون أن تطرح خياراً ثالثاً يجمع بين الاثنين.

بظني أن إعادة فتح هذا الملف أمراً حيوياً واستراتيجياً، ولكن ليس بالضرورة مع الإمارات نسبة لتدهور العلاقات حالياً ولا في زمن الحرب لأنه لا يوجد استثمار في ظل حرب مشتعلة، وإنما بعد توقف الحرب ومع أي دولة أخرى ترغب في ذلك (السعودية مثلاً)، ولكن وفق صيغة وطنية صارمة تحفظ السيادة وتحقق التنمية.

فالفشقة لن تستقر ما دامت تمثل بؤرة نزاع مهجورة، ولن تفيد السودان ما لم تُدار بإرادة استراتيجية تجمع بين الأمن والسيادة والاستثمار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى