تقارير

للحرب أوجه أخرى.. الكوليرا تفتك بالسودانيين

منتدى الإعلام السوداني

مهند مرشد – الخرطوم، 12 يوليو 2025- (جبراكة نيوز) بينما يشهد النظام الصحي في السودان انهيارًا شبه كامل نتيجة الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين، يتفشى وباء الكوليرا بوتيرة متسارعة، ما يفاقم من معاناة المواطنين المكتوين بالقتال الدموي الذي تعيشه البلاد. وقد سُجلت عشرات الآلاف من الإصابات ومئات الوفيات منذ أواخر عام 2024.

ويتزامن انتشار الكوليرا مع غياب المياه النقية، وتعطل خدمات الصرف الصحي، وانهيار الرعاية الصحية الأساسية، ما دفع منظمات دولية إلى التحذير من كارثة إنسانية واسعة النطاق إذا لم تُتخذ تدابير عاجلة.

اعتراف رسمي 

في 17 أغسطس 2024، أعلن وزير الصحة الاتحادي السابق، هيثم محمد إبراهيم، رسميًا تفشي الكوليرا في بعض ولايات السودان، عازيًا ذلك إلى تدهور الأوضاع البيئية وتلوث مصادر المياه. ومنذ ذلك الحين، استمرت حالات الإصابة في التذبذب بين التمدد والانحسار في معظم الولايات.

وفي تقرير مركز عمليات الطوارئ الاتحادي الثلاثاء 8 يوليو 2025، يؤكد أن الإصابات خلال أسبوع بلغ 603 إصابة ومنها 8 حالات وفاة ليصبح التراكمي (84،531) إصابة، بينها (2145) حالة وفاة، من 110 محليات من17 ولاية، لافتًا إلى أن زيادة الإصابات وسط العائدين من دولة جنوب السودان إلى سنار، النيل الأبيض والنيل الأزرق. كما ذكر التقرير وجود تفاوت في وفرة أدوية ومستهلكات الوبائيات بمخازن صندوق الإمدادات بالولايات.

وتعكس هذه الأرقام المسجلة حجم التحديات التي تواجه السلطات الصحية والمنظمات الإنسانية في مراقبة الوباء واحتوائه، لاسيما مع دخول فصل الخريف، وانتشار الجثث المتحللة والمخلفات في المناطق المتأثرة.

أزمة بيئية ومخاوف في دارفور

تقول أديبة إبراهيم السيد، اختصاصية الباطنية والأوبئة وعضو لجنة أطباء السودان – فرعية أمدرمان، في تصريح لـ”جبراكة نيوز”، إن استمرار الحرب وتدهور البيئة وغياب خدمات الصرف الصحي، وانتشار الجثث المتحللة وتلوث المياه، كلها عوامل رئيسية في انتشار الكوليرا. وأشارت إلى أن المجاعة وسوء التغذية أسهما كذلك في انتقال العدوى بسرعة، إلى جانب اكتظاظ مراكز الإيواء، ونقص الكوادر والمستلزمات الطبية.

وحذّرت أديبة من تفشي المرض مؤخرًا في إقليم دارفور، واصفة الوضع هناك بالخطير بسبب صعوبة الوصول إلى المناطق المتأثرة نتيجة الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع، مما يجعل الاستجابة الإنسانية شبه مستحيلة. 

وأضافت أن التقارير المتوفرة تعتمد في الغالب على ما تنقله منظمة أطباء بلا حدود في مدينة نيالا، التي تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع.

وتغيب الخدمات الحكومية الرسمية بشكل شبه كامل عن ولايات دارفور الخمس، مع استمرار القتال وتوقف المستشفيات، في وقت تحاول قوات الدعم السريع إدارة الأوضاع في ظل شح الموارد وضعف الاستجابة الطبية.

وفي يونيو الماضي، أفادت إدارة الطوارئ ومكافحة الأوبئة بوزارة الصحة في جنوب دارفور بتسجيل 279 حالة منذ 27 مايو، بينها 21 حالة وفاة. كما افتتحت منظمة “أطباء بلا حدود” مركزًا جديدًا لعلاج الكوليرا في مستشفى النهضة بنيالا، بعد تسجيل 250 حالة في مستشفى نيالا التعليمي. لكن الأرقام تظل غير دقيقة نظرًا للقيود الأمنية وصعوبة الوصول.

تقاعس حكومي ومبادرات شعبية

أحد الناشطين في غرفة طوارئ محلية بأمبدة – طلب عدم ذكر اسمه – قال لـ”جبراكة نيوز” إن تفشي الكوليرا يرتبط مباشرة بغياب الدور الحكومي، مؤكدًا أن “السلطات المحلية، خاصة هيئة الصحة، كان يجب أن تتدخل بشكل عاجل لتنظيف المدينة وتعقيمها، فالمشهد في أمبدة تنقصه بيئة صحية حقيقية وسط الجثث والنفايات المتناثرة”.

وأشار إلى انحسار الموجة الأولى من المرض بأمبدة، لكنه أبدى مخاوف من عودة أقوى مع هطول الأمطار، في ظل غياب حملات رش وتنظيف حقيقية. ودعا إلى تضافر الجهود بين المواطنين والسلطات المحلية، مشيدًا بمبادرات نظافة الحارات، ومنها مبادرة “لجنة أمبدة الراشدين” التي أطلقت حملة لإعمار وتنظيف الأحياء.

وتحدث أيضًا عن أحد أخطر مسببات الكوليرا، وهو المياه الملوثة، مشيرًا إلى أن الأسرة الواحدة تنفق على مياه الشرب الصالحة أكثر مما تنفقه على الغذاء، إذ يبلغ ثمن “جركانتين” من الماء نحو 3,000 جنيه، مع صعوبة في الحصول عليها.

يشار إلى أنه مع بداية هطول الأمطار، حذر المركز القومي للأرصاد الجوية في السودان في منشور رسمي صدر في 8 يوليو الجاري، من زيادة معدلات هطول الأمطار واحتمال وقوع فيضانات مفاجئة، خاصة في المناطق المنخفضة.

وأوصت هيئة الصحة بضرورة التحضير المبكر لمخاطر الأمراض المنقولة بالمياه-منها الكوليرا- من خلال توفير مياه شرب نظيفة والأطعمة والأدوية الأساسية، وإزالة النفايات وتحسين النظافة العامة والشخصية، وتعزز تحذيرات الهيئة المخاوف من تفاقم الوضع الصحي خاصة إن لم تجد استجابة عاجلة لمعالجة عوامل انتشار الأوبئة.

وقال مدير إدارة الطوارئ الصحية بوزارة الصحة الاتحادية الدكتور منتصر محمد عثمان لـ”جبراكة نيوز”، إن عدم كفاية امداد المياه الصالح للشرب، خاصة بعد استهداف قوات الدعم السريع لمحطات المياه والكهرباء عطلت وصول الخدمات للسكان، وعدم توفر دورات المياه في كثير من المناطق يدفع البعض للتبرز في العراء وبالقرب من مصادر المياه، مما بعد من أبرز أسباب تفشي الكوليرا. مشيرًا إلى أن التوعية الصحية تلعب دورًا حاسمًا في الحد من الإصابة بالكوليرا، من خلال تعريف المواطنين بطرق انتقال العدوى. 

ونوه أن الكوليرا في تاريخ السودان ظلت تمر بدورات متقطعة ما بين تسجيل الإصابات لسنوات متتالية تمتد من 4 إلى 5 سنوات، وقد تكون في حالة خمود لسنوات تمتد من 3 إلى 6 سنوات.

خلال شهر فبراير ومارس 2025، أدت هجمات نفذتها قوات الدعم السريع على محطة أم دباكر الحرارية، شرق مدينة ربك بولاية النيل الأبيض، إلى توقف خدمات المياه والكهرباء عن أجزاء واسعة من الولاية، ما دفع الناس إلى استخدام مصادر مياه بديلة غير آمنة من بينها مياه نهر النيل الأبيض. وأسفر ذلك عن تفاقم وضع الكوليرا على نحو مثير للقلق.

وقال هيثم جمعة، أحد المتعافين من الكوليرا، بمدينة كوستي، لـ”جبراكة نيوز”، إنه بدء يعاني من التقيؤ والإسهال المفاجئ، وبعد نحو ساعة انهارت قواه، فاضطرت أسرته إلى نقله إلى أقرب مركز صحي، إلا أن الطاقم الطبي رفض استقباله ووجّههم إلى مستشفى كوستي التعليمي.

وقال جمعة إنه تلقى مع باقي المصابين الآخرين خلال أيام إقامته الأربعة، العلاج الذي اقتصر على المحاليل الوردية وتناول أملاح التروية عوضًا عن المياه، وقبل ذلك تناول مضادات حيوية لوقف الإسهال، موضحًا أنه تلقى 36 محلولًا وريديًا متواصلة.

ولفت إلى أنه في الأيام الأولى كان مركز العزل يسع جميع المصابين، لكن خلال ثلاثة أيام وصلت القدرة العلاجية إلى قمتها، مما دفع الكوادر الطبية إلى تقديم الخدمات الاسعافية في فناء المستشفى وخارجها، مما يدل على تصاعد الإصابات بشكل مقلق.

 وأشار هيثم إلى أن معظم حالات الوفاة التي شاهدها أثناء إقامته في مركز العزل كانت لأشخاص وصلوا إلى المستشفى بعد تأخر لساعات طويلة، خصوصًا من سكان القرى المحيطة بالمدينة، أو من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، والحالات الأخرى -وفق تعبيره- فقد تعافت في حدود يوم إلى 3 أيام بعد تلقي العلاج اللازم، الذي وصفه بالبسيط رغم خطورة المرض.

وتسلط إشارة هيثم الضوء على تحديات الصعوبة في الوصول إلى مراكز تلقي العلاج، لا سيما في القرى والمناطق التي تشهد نزاعًا، إذ يعيق الوصول إلى المرافق الصحية ويساعد في زيادة معدلات الوفيات.

إنذار أممي

في تقريره الصادر في 3 يوليو 2025، ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن أكثر من 33.5 مليون شخص، بينهم 5.7 مليون طفل دون سن الخامسة، معرضون للخطر بسبب الكوليرا، مع تزايد الحالات في دارفور وظهور تقارير عن انتقال العدوى إلى تشاد وجنوب السودان.

ويكابد السودانيون منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، بين الجيش وقوات الدعم السريع، أزمات مركبة شملت النزوح والتهجير، وفقدان مصادر الدخل، وانتشار الأوبئة، ما جعل السودان في مواجهة ما تصفه الأمم المتحدة بأسوأ كارثة إنسانية في العالم، تستدعي تدخلاً عاجلاً محليًا ودوليًا لإنقاذ ما تبقى من الأرواح.

ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء فيه هذه المادة من إعداد (جبراكة نيوز) في إطار متابعة التداعيات الكارثية التي تصاحب الحرب، ومنها تفشي وباء الكوليرا على نطاق واسع في الشهور الماضية. ومن المخيف أن هذا الوباء كامن، ومن المحتمل أن يتفاقم مع هطول الأمطار التي بدأ فصلها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى