كارثة منسية: ارتفاع وفيات الأمهات والأطفال في كردفان وسط انهيار النظام الصحي
مشاوير - تحقيق: رابعة ابو حنة

في قلب المشهد السوداني المنكوب بالحرب والنزوح، تتكشف فصول كارثة إنسانية متفاقمة في ولاية غرب كردفان، حيث تواجه النساء والأطفال وضعا بالغ الخطورة، وسط انهيار شبه تام للبنية التحتية الصحية، وتدهور غير مسبوق في ظروف الإيواء والمعيشة.
تحقيق أجرته منصة “مشاوير” داخل مراكز الإيواء المنتشرة في الولاية، كشف عن إحصائيات صادمة تشير إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات وفيات الأمهات والأطفال، وذلك نتيجة خروج نحو 85% من المستشفيات عن الخدمة، ونقص حاد في الكوادر الطبية، وانعدام الأدوية والخدمات الصحية الأساسية.
وفيات بالجملة
بحسب ورقة صادرة عن منظمة مزنة الخيرية، حصلت عليها “مشاوير”، فإن مستشفى الفولة وحده سجل في ديسمبر 2024 وفاة تسع أمهات و21 طفلا خلال شهر واحد فقط، في وقت باتت فيه الولادة عملية محفوفة بالمخاطر بسبب عدم توفر الرعاية الطبية وارتفاع كلفة العمليات القيصرية إلى نحو 200 ألف جنيه سوداني، مبلغ يعجز معظم السكان عن دفعه.
هويدا الطاهر، مديرة منظمة مزنة، قالت: “الخدمات الصحية شبه معدومة، لا دواء، لا كادر، ولا معدات. النساء يلدن في ظروف كارثية، وبعضهن يفقدن حياتهن أو حياة أطفالهن نتيجة هذا الإهمال البنيوي”.
حياة بلا كرامة: مراكز إيواء مكتظة وفقيرة
تعاني النساء النازحات في المخيمات من أوضاع معيشية قاسية. في مركز نهر عطبرة بولاية نهر النيل، قالت نازحة إن النساء يفتقدن للخصوصية ويُجبرن على العمل في مهن هامشية لتأمين لقمة العيش، فيما اضطر البعض للجوء إلى الانحراف لسد الرمق. وأضافت أن الفوط الصحية نادرة، وبعض النساء يتناولن أدوية لوقف الدورة الشهرية لتجنب المعاناة.
الناشطة سهام محمد عيسى، من مخيم التريا بالقضارف، أكدت أن النساء يتعرضن للعنف والتحرش، في ظل غياب المساحات الآمنة، وندرة الحماية القانونية. وأشارت إلى نقص حاد في الأغذية والمواد الصحية، وغياب المياه النظيفة، مما أدى إلى تفشي الأمراض المنقولة.
انتهاك إنساني صامت: عنف واستغلال جنسي
من جانبها، تحدثت بثينة حماد، المشرفة على عدد من المعسكرات، عن موجات نزوح متكررة أرهقت النساء، اللواتي أصبحن يتحملن مسؤولية إعالة الأسرة كاملة في غياب الزوج أو مصدر دخل ثابت. وذكرت أن كثيرات تعرضن للاستغلال الجنسي أو أُجبرن على تزويج بناتهن القاصرات خشية التحرش.
وأضافت بثينة: “في حادثة المجلد، استهدفت مسيرة حربية مستشفى النساء والتوليد ومركز غسيل الكلى، مما أدى إلى مقتل 57 مدنيًا بينهم نساء حوامل ومرضى مزمنون، في مجزرة صادمة لم تحرك ضمير العالم”.
تفاوت في الرعاية وتجاهل رسمي
الناشطة ندى هاشم نبهت إلى التفاوت الواضح في الدعم بين مراكز الإيواء الحكومية وتلك التي يديرها متطوعون من الشباب. وقالت: “مراكز الحكومة تحصل على دعم، أما المراكز الأخرى فتُركت لمصيرها، رغم أنها تستقبل العدد الأكبر من النازحين”.
ورقة أخرى أعدتها منظمة مزنة كشفت أن 33.3% من نساء كردفان لم يكملن التعليم العام بسبب الزواج المبكر، و٢٢% استهداف عرقي، ٦٦% فقدن وظائفهن، ٦٦%يعتمدن على المساعدات. في حين افقرت الحرب ٧٧% من النازحات .
غياب المدارس وتدهور نفسي
فضلا عن ذلك، أشارت شهادات إلى انقطاع الفتيات عن الدراسة بسبب النزوح، وتردي جودة التعليم، وغياب المدارس الملائمة. كثير من النساء يعانين من اضطرابات نفسية جراء فقد الأحبة، والعزلة، وانعدام المستقبل.
وأفادت ندى هاشم أن الحمامات في المعسكرات غير نظيفة، ولا توجد مساحات آمنة، أو أماكن منفصلة للنساء، مما يعرضهن للاستغلال ويؤثر على صحتهن الجسدية والنفسية.
نقص في الأغذية والدواء
التحقيق رصد كذلك تأخر توزيع سلال برنامج الغذاء العالمي لأشهر، مما اضطر الأسر إلى التسول أو إرسال النساء للعمل في الزراعة وجمع الحطب.
في معسكر الشجيرات وحده، سُجلت ست حالات اغتصاب لأطفال منذ بداية الحرب، فيما تنتشر أمراض كالإيرقان وسوء التغذية والملاريا ولدغات العقارب دون تدخلات طبية تذكر.
حرب لا ترحم
تأتي هذه المأساة ضمن سياق الحرب المستمرة في السودان منذ اندلاعها في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع. وبالنسبة لغرب كردفان، التي تعاني أصلاً من تهميش تاريخي، فقد شكلت الحرب ضربة قاضية لما تبقى من نظمها الصحية والتعليمية والاجتماعية.
وتقول منى، عضو منظمة مزنة، إن المنظمة دعمت 9 مراكز في الفولة، وأربعة في النهود وأب زبد، لكن تحديات أمنية وعراقيل فرضها الدعم السريع أعاقت العمل. وأضافت: “نرفض الدخول في شراكات مع قوى مسلحة تفرض شروطها على العمل الإنساني”.
وتختتم الورقة بأن الحاجة الحقيقية للنساء لا تقتصر على الغذاء أو الدواء، بل تمتد إلى الكرامة، والخصوصية، والأمان. وبينما تتأخر الاستجابة الدولية، وتغيب الدولة، تواصل النساء دفع الثمن مضاعفا: كضحايا للحرب، والفقر، والإهمال.
الركن المنسي
في هذا الركن المنسي من السودان، لا تزال صرخات الأمهات ودموع الأطفال تنتظر من يسمعها.