
في خضم الحرب المدمرة التي اجتاحت الخرطوم منذ أبريل 2023، أصر الفنان السوداني المخضرم أبو عركي البخيت على البقاء في منزله بحي العرضة بأم درمان، متحديًا الخطر ليجسد مبدأ “لن أترك الوطن حين يمرض”. لم يكن قراره مجرد اختيار شخصي، بل كان فعل مقاومة فني وأخلاقي، يهدف إلى إرسال رسالة مفادها أن الفنان الحقيقي لا يغادر إلا جثمانًا.

رغم القصف المستمر وتبادل النيران، بقي أبو عركي إلى جانب ابنه فارس، متخذين احتياطات مأساوية بالبقاء في غرفتين منفصلتين لضمان بقاء أحدهما لمساعدة الآخر. في هذا الجحيم، لم يتوقف عن العطاء، فكتب القصائد وغنى للحياة، منتقدًا الحرب ومعبرًا عن ألمه بسؤاله الشعبي: “يا القذيفة الجايه من وين؟”. اعتبر الرحيل خيانة، متمسكًا بقيمته كفنان لا يتخلى عن وطنه في محنته.
أبو عركي، المعروف بأغنياته الخالدة مثل “بخاف” و”سهرنا الليل”، تجاوز الانتماءات الحزبية ليصبح صوتًا وطنيًا موحدًا. حتى القوات المتحاربة، الجيش وقوات الدعم السريع، زارته في منزله، مؤكدين احترامه. لقد تحول منزله إلى ملاذ إنساني ونقطة التقاء، ونحت بوابة منزله بالنوتة الموسيقية لأغنية “عزة في هواك” لتصبح رمزًا للوطن والفن.

لقد كتب عن دارفور بوجع إنساني حاد، مستنكرًا المتاجرة بآلامها ومعبرًا عن انتمائه العميق لوطنه الجريح. وصفه رئيس اتحاد المهن الموسيقية، عبد القادر سالم، بأنه “فنان لا يُشترى، لا يُكسر، ولا يُنسى”، مشيدًا بحضوره الإنساني والفني الذي أكسبه احترام الجميع.
وفي مشهد رمزي مؤثر، كانت طيور الحمام تحط على يديه خلال الحرب، في إشارة رأى فيها بشارة لسلام قادم. وهكذا ظل أبو عركي البخيت: فنان لا يهاب، وصوت لا ينكسر، رمزًا للصمود الفني والإنساني في وجه الحرب.