مقالات

إبراهيم الحوري : نافخ الكير يودّع ألسنة اللهب

عبد الجليل سليمان

“نافخ البوق يموت أولاً” 

شعر صيني. 

لم يكن إبراهيم الحوري، العقيد الركن ورئيس تحرير صحيفة القوات المسلحة سابقاً، مجرد ضابط يرتدي بزته العسكرية ويجلس خلف مكتبه الموشّى بالنياشين والرتب. 

كان أقرب إلى طاووس مهووس بانعكاس صورته في المرآة، يتباهى بزيه كلما سنحت له الفرصة، ويختال بكتفيه وكأن على كل منهما عرش صغير يزن بقدر ما يزن من الأوهام. لم يكن في مشيته سوى زهو أجوف، وفي نبرته سوى صدى لصوت غيره.

لقد كان باختصار: إخوانياً يفيض ماؤه على حواف (الكوز)، فيظن أن سيبلل به تنظيمه السياسي ، لكنه (بل) به الجيش ، قبل أن يبتل هو ايضاً ويغرق !

المرايا

كل صباح كان يفتح خزانته ببطء مهيب، يمد يده إلى بزته العسكرية، يتفقد النجوم والأشرطة والكتافيات كما يتفقد مراهق وساماً بلا قيمة. 

يبتسم لصورته في المرآة قبل أن يتجه إلى مكتبه، وكأن المرآة وحدها تمنحه شرعية الاستمرار.

خلف نظراته كان هناك فراغ كبير، خواء يتسع مع كل تصريح يطلقه، ومع كل افتتاحية يكتبها في صحيفة الجيش، حيث لا مكان للواقع سوى بوصفه مادة قابلة للتشويه والتأويل.

نافخ الكير 

لم يكن الحوري صحافياً، بل نافخ بوق. مهمته الوحيدة أن يضخ الهواء في رئة الجنرالات، ليخرج صوتهم أكثر صلابة مما هو عليه في الحقيقة. 

لكنه، فوق ذلك، كان نافخ كير أيضاً؛ فبينما اكتفى غيره بتزييف الكلمات، انشغل هو بنفخ نار الحرب، محرضاً على إشعالها، وموهماً الجنود والشعب أن الموت في ساحات القتال هو الخلاص. لم يكن صوته إلا ضجيجاً يملأ الفراغ، ولا حماسته إلا زيتاً يسكب على نار تستعر.

الزهو الزائف

لقد بنى ماظن أنه (مجدٌ صغير) على حروف رخوة، وشيّد هالته الزائفة من عبارات جوفاء. في مقالاته كانت اللغة تتصبب عرقاً، تلهث خلف شعارات عسكرية باردة. 

يكتب وكأنه في ساحة عرض عسكري، لا في صحيفة يُفترض أن تكون مرآة للحقيقة. ما إن يلتقط القلم حتى يتحول النص إلى صف طويل من الجنود الخرس، مصطفين على ورق أبيض ينتظرون الأوامر.

سقوط بطيء

ثم جاء اليوم الذي أُحيل فيه إلى المعاش. لم يكن السقوط مدوياً، بل بطيئاً مثل انطفاء شمعة لم تجد من يحرسها من الريح. خرج الرجل من المشهد متثاقلاً، يجر خلفه ذيل الخيبة التي صنعها بنفسه. لم تُنقذه رتبته ولا بزته ولا الألقاب التي تراكمت كغبار على صدره. لم يجد سوى مرآة باهتة تعكس له صورته بلا مجد ولا سطوة.

بقايا صدى

الآن، وقد غادر مقعده الذي ظن أنه عرش، لم يبقَ للحوري سوى صدى ضعيف يتردد في ذاكرة القراء. صدى لرجل شتم وأساء أكثر مما كتب، وتباهى أكثر مما فعل. سيبقى في الحكاية كرمز للطاووس الذي أرهقه ثقل ريشه، ولنافخ البوق الذي لم يكن صوته صوته، ولنافخ الكير الذي لم يخلف وراءه سوى رمادٍ يطير مع أول هبة ريح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى