
إن نشأة المبدع في محيط البيئات التي ساهمت في تراكم وعيه لا بد أن تنعكس تبعا على مستوى إبداعه.
فالمبدعان نشآ وسط أسرتين يجيد بعض أفرادها قرض الشعر. فالعميري كما يقول شقيقه شريف في حوار مع الأستاذ عثمان الإسباط “من أسرة تتنفس شعراً وأدباً، فوالدته فاطمة محمد عبد الحميد أبو شنب كانت شاعرة مجيدة، وكذلك شقيقته الأستاذة سعدية العميري”.
أما مصطفى فشقيقه الذي رحل مبكرا، مقبول، قد سبقه في كتابة الشعر، وقد تأثر به إلى حد ما وقد غنى له “السمحة قالوا مرحلة”.
وربما من هنا جاء اهتمام مصطفى والعميري بكتابة الشعر، وتذوقه، وتلحينه. وهو على كل حال شعر من ذلك النوع الذي يتلمس أوجاع الناس بقدر اقترابه من عاطفتهم، ويتسامى بالمضامين بحجم أخذه في الحسبان التطورات الجديدة المنعكسة على صفحة الحياة، ما يستلزم تعبيرا جديدا في الرؤى، والأخيلة، والموقف الإنساني.
يقول الأستاذ ناجي أحمد الصديق: “ولد كلا الرجلين ونشآ خارج العاصمة، وتشبعا بعبق الريف الطاغي بسهول الجزيرة، ونجوع كردفان. وكلاهما كانا من أواسط الناس، وسوادهم الكادح. وكلاهما قد بدأ التعليم في قريته، وكلاهما قد تمرد على الوظيفة، والمهنة، واتجها الى حيث يسوقهما الميل الفطري القديم..”. لقد رفدت المدن السودانية، وأريافها، مجالات الإبداع بالكثير من المضامين، والأشكال الفنية.
وإذا أجلنا النظر في عموم الإبداع السوداني لوجدنا أن منتجيه المميزين هم الذين تحدروا من خارج العاصمة. وإن كان مصطفى هو ابن القرية، ود سلفاب، وأن العميري هو ابن المدينة، الأبيض، والتي بها مساحات أوسع للمنشط الثقافية والفنية، فإن مصطفى ظل لقرب مسافة القرية من الحصاحيصا ينمي ارتباطا كبيرا بالمدينة، إذ تجمعه علاقة حميمة برموزها الفنية، والثقافية. كما أن نضوجه الفني برز من خلال مدينة بورتسودان التي منحته لأول مرة الفرصة للوقوف أمام الأوركسترا وشجعت بداياته الأولى. وهكذا ظل ارتباطه أيضا بمدينة الثغر مؤكدا من خلال دراسته الثانوية هناك. وربما ساهم هذا التعدد الجغرافي في التجوال في شحذ ذاكرته الفنية، خصوصا أن أصوله ترتبط بمنطقة الشايقية والدناقلة.
أما العميري فإنه لا بد كما ذكر الأستاذ ناجي قد ارتبط بنجوع كردفان، إذ إن الأبيض بخلاف أنها تمثل السودان المصغر من حيث تكوينها الإثني سوى أن المكون الريفي يتجسد في أعمال مبدعيها.
ولا ننسى أن معظم الذين أتوا من المدينة ينتمون إلى الريف، بدءً بعبد القادر سالم، وصديق عباس، وعبد الرحمن عبدالله، وإبراهيم موسى أبا، هذا إن لم نقل أن أغنياتهم نشأت على موتيفات ريفية لأغاني الحوازمة، والحمر، أو بقية مدن دار الريح الكردفانية. وإذ إن أصول مصطفى تعود إلى الشمال حيث منطقة الشايقية لكنه لم يولد أو ينشأ هناك.
وظل ارتباطه بالجزيرة عميقا بأكثر من الارتباط بالشمال، بالدرجة التي جعلته في كثير من أحاديثه يتحيز إليها بوصف نفسه تربالا يرتبط أشد الارتباط بالأرض. أما العميري فتعود أصوله إلى منطقة دنقلا، وهو أيضا لم يولد، أو ينشأ، هناك وظل وفيا لمنطقة الأبيض برغم ارتباطه بالعيش بحي أبروف. فالأستاذ طاهر محمد علي يقول إنه “يحلو لأهل كردفان، وتحديداً مدينة الأبيض التباهي بابن المدينة المبدع عبد العزيز العميري، وهكذا أهل أم درمان الذين يعتبرون أن مدينتهم هي الأخرى لها فضل على هذا الفنان الذي ألهمته البقعة فأخرجت من جعبته الرقة، والحس المرهف، والطبع الرزين، يمشي في مساحاتها مثلما مشى بين أزقة وأحياء الأبيض وصولاً إلى مصنع النجوم فرقة فنون كردفان..”.
هذا الانتماء الجديد للعميري لأمدرمان، ومركز شبابها، قابله الانتماء الجديد لمصطفى إلى مدينة الخرطوم حيث وجد الديم ولاحقا امتداد الدرجة الثالثة حيزين لمجاورة أقرب أصدقائه.
ولئن تقترب سكناه هناك من مركز شباب السجانة وفرقة الخرطوم جنوب للغناء والموسيقى فقد انتمى إلى عضوية الناديين، وتعاون مع عازفين، وملحنين فيهما. والملاحظة الثانية أن مصطفى والعميري أوجدا تواصلا مميزا مع أهالي الأحياء التي قطنا فيها. فهما يمتازان بالتواضع الجم، وتنمية العلاقات الإنسانية وسط غمار ناس الحي.
وما عرفه اللصيقون بمصطفى أنه لم يكن يأبه كثيرا بالمال، أو تكديسه، وإنما كان يصرف كل دخول حفلاته على الأهل، والأصدقاء، وغيرهم ممن لا تجمعه صلة بهم. وأحيانا لا يجد الفنان ما يسد به الرمق في ذلك البيت الذي ضمه مع عدد هائل من أصدقائه، وهو ما عرف ببيت العنكبوت.
كان مثل زميله العميري الذي لا يني من السير في حواري أمدرمان دون أن يستعين بعربة. وكانت المواصلات العامة وسيلته للتداخل مع الأصدقاء البعيدين. فالعميري كما يقول الدكتور محمد علي بابكر قد كان “يتشكل ببساطة في لوحات الحياة اليومية في أبو روف، أحياناً يصادفك راكبا مع نساء في (ضهريّة)، بوكس بحمولته ماشي في الاتجاه الذي يقصده للعزاء، وتارة جالس في حجر يصطاد السمك جوار مركب خاله حسن، أحياناً أخرى (يدفر) مع آخرين عربة متعطلة في شارع البحر، وبعد النجاح في تحريكها (ينط) معهم يصل إلى الإذاعة..”.
هكذا هو حال مصطفى أيضا. فحين يذهب إلى ود سلفاب يرتدي جلابيته، ولا يني من الذهاب إلى المزارع يحمل بيده الطورية ليسهم في تنظيف زرع هذا، أو حصد مزرعة تلك، على حد تعبير الذين عرفوه في القرية.