
تدخل الحرب السودانية عامها الثالث محمّلةً بإشارات متناقضة عن السلطة والشرعية والإدارة اليومية لحياة الناس. ففي الخرطوم، ترأس الفريق أول ركن شمس الدين كباشي اجتماعاً رسمياً بحضور وزير الحكم الاتحادي ووالي الخرطوم لمتابعة الأزمة الخدمية والإنسانية وإصلاح محطات المياه واستعادة الكهرباء وتأهيل المرافق الحيوية. الاجتماع بدا كرسالة سياسية وإدارية في آن: الجيش لا يدير حرباً فقط، بل يسعى أيضاً لاستعادة قدرة الدولة على تقديم الخدمات في العاصمة، وكسب معركة الثقة التي باتت توازي الميدان العسكري في أهميتها.

على الضفة المقابلة، طرح محمد حمدان دقلو “حميدتي” من نيالا حكومة موازية تحت مسمى “حكومة السلام” المنبثقة عن تحالف “تأسيس”، مؤكداً التزام الحكم اللامركزي والدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، والتعاون الإنساني مع وكالات الأمم المتحدة، واحترام المواثيق الدولية والمصالح المشتركة. أداء اليمين من قبل رئيس ونائب رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي، وبينهم حكام أقاليم، كان محاولة لبناء شرعية مؤسسية مضادة، تستند إلى سردية إنهاء الشمولية، ومحاسبة الانتهاكات، وتخفيف معاناة النزوح والجوع. بذلك صار المشهد أقرب إلى تسابق على تمثيل “الدولة” لا مجرد صراع مسلح على السلطة.

في قلب العاصمة، عقد رئيس الوزراء كامل إدريس أول اجتماع رسمي لحكومته المدنية بمشاركة 22 وزيراً، متبنياً مسار “الحوار السوداني ـ السوداني” ضمن ما سمّاه برنامج “الاستشفاء الوطني”. رمزية انعقاد الجلسة في الخرطوم منحت الانطباع بوجود تحسّن أمني نسبي ورسالة بأن الحياة تعود تدريجياً. لكن أصواتاً معارضة ـ بينها القيادي البعثي أحمد بابكر ـ شككت في “تطبيع صورة” العاصمة، وذهبت إلى حد الحديث عن تفاهم غير معلن لعدم استهداف القيادات من الطرفين، معتبرةً أن الدعوة إلى حوار شامل بلا تحديد لأجندته وأطرافه تعيد إنتاج خطاب المراوغة، وأن الفاعلية الحقيقية للملف السياسي ما زالت بيد قيادة المؤسسة العسكرية لا الحكومة المدنية.

يتقاطع هذا الجدل مع تحليل أوسع قدّمه خالد عمر يوسف بعنوان “انقسام اليوم ليس كانقسام الأمس”. فبينما كان انفصال 2011 حصيلة تلاقي إرادات داخلية وخارجية غالبة، تبدو تشققات 2025 بلا إرادة حاسمة تدفع للتقسيم، لكنها محمولة على هشاشة عميقة وتناقضات داخل التكوينات المسيطرة، ما يجعل التقسيم الجاري على الأرض غير قابل للاستدامة ويفتح الباب أمام تشظٍ أوسع وكلفة اجتماعية وإنسانية باهظة، مع ارتدادات إقليمية على البحر الأحمر والساحل والقرن الإفريقي والبحيرات العظمى.

من هذه الصورة المركّبة تتولّد أربعة مسارات محتملة لمستقبل السودان خلال الأشهر المقبلة. المسار الأول هو تثبيت ازدواجية الحكم على نحو “منخفض الحدة”: حكومة مدنية مسنودة من الجيش في الخرطوم وبورتسودان تركز على الخدمات وإعادة الإعمار الجزئي، في مقابل إدارة سياسية وأمنية بقيادة “تأسيس” في دارفور وأقاليم أخرى تتكئ على خطاب اللامركزية والممرات الإنسانية. يوفّر هذا المسار هدنة اجتماعية موضعية ويؤجل الحسم، لكنه يرسّخ واقع السلطات المتعددة ويعرقل أي توحيد مؤسسي. وتتبدى مؤشرات هذا المسار في انتظام اجتماعات مجلس الوزراء داخل الخرطوم، وتحسن نسبي للخدمات، مقابل قدرة “حكومة السلام” على تشغيل مرافق محلية وإظهار انضباط أمني في مناطق نفوذها.

المسار الثاني هو تسوية تفاوضية مُدارة خارجياً تؤدي إلى وقف إطلاق نار والترتيب لحوار سياسي أوسع. هذا الخيار يتطلب ضغطاً متزامناً من الفاعلين الإقليميين والدوليين ومسارات إنسانية ضامنة، لكنه يصطدم بغياب كتلة مدنية موحدة قادرة على صوغ أجندة واضحة وتوازن مع طرفي السلاح. الخطر هنا أن تتحول التسوية إلى محاصصة تعيد تأبيد اقتصاد الحرب وتؤجل الإصلاحين الأمني والمؤسسي. وتظهر المؤشرات في فتح قنوات تفاوض علنية حول الترتيبات الأمنية، وإجراءات بناء ثقة مثل إطلاق المحتجزين وضمان مرور القوافل الإنسانية، وتوافق أولي على خريطة طريق للعودة إلى المنظومة الإفريقية.

المسار الثالث هو التشظي المتسارع، حيث تفشل السرديات الثلاث ـ إدارة الخدمات من الخرطوم، اللامركزية من نيالا، والحوار الوطني ـ في ضبط المجال العام، فتتقدم الولاءات المحلية والاقتصاديات غير الرسمية، وتتسع جغرافيا العنف إلى نزاعات مجتمعية جديدة، وتتدهور البنية الأساسية في العاصمة، وتتقلص الممرات الإنسانية، وتتعمق أزمات الغذاء والصحة والتعليم. خطورة هذا المسار أنه يحول الازدواجية إلى تفتت متعدد المراكز، ويجعل أي تسوية لاحقة أكثر كلفة وتعقيداً.

المسار الرابع، وهو الأقل احتمالاً لكنه الأجدى وطنياً، يقوم على تشكّل كتلة مدنية عريضة قادرة على تحويل “الحوار السوداني ـ السوداني” من شعار إلى عملية سياسية لها قواعد واضحة ومخرجات قابلة للتنفيذ. يتطلب هذا المسار ميثاقاً مدنياً موحداً يحدد علاقة المدني بالعسكري، وسلماً زمنياً للانتقال، وترتيبات أمنية نازعة للاحتكار المسلح، وغرفة عمليات للخدمات والإغاثة تستعيد دور الدولة في حياة المواطنين، مع خطاب عام يفكك سرديات الكراهية ويكشف كُلفة اقتصاد الحرب على المجتمع. نجاحه مرهون بإرادة سياسية داخلية، وبمناخ إقليمي لا يوظف السودان كساحة تنافس بالوكالة.

بين هذه المسارات، يبقى العامل الحاسم هو الشرعية المبنية على القدرة الفعلية على حماية المدنيين وتقديم الخدمات، لا على الخطابات وحدها. اجتماع كباشي في الخرطوم أقرّ عملياً بأن مفاتيح الشرعية تمر عبر محطة مياه وكابل كهرباء ومرفق صحي. وخطاب حميدتي اعترف بأن الاعتراف الخارجي لن يتحقق بلا التزام بالقانون الدولي الإنساني وتأمين الممرات. وجلسة كامل إدريس أظهرت أن أي “استشفاء وطني” يحتاج إلى جدول أعمال محدد وأطراف معروفة وآليات متابعة تقيس التقدم لا النوايا.

في المحصلة، لا يُختزل مستقبل السودان في ثنائية نصر وهزيمة عسكرية. الاختبار الحقيقي في الأسابيع المقبلة سيكون في تفاصيل تبدو تقنية لكنها سياسية بامتياز: هل ستتكرر جلسات مجلس الوزراء داخل الخرطوم وتتسع لتشمل إجراءات ملموسة في الكهرباء والمياه والرواتب؟ هل ستنجح “حكومة السلام” في ترجمة شعارات اللامركزية إلى خدمات وأمن محلي متماسك من دون انتهاكات؟ هل يظهر للمجال العام صوتٌ مدنيٌ موحّد يضع برنامجاً قابلاً للتنفيذ ويُلزم الأطراف بخريطة طريق جدية؟ الإجابات عن هذه الأسئلة ستحدد إن كان السودان يتجه إلى هدنة طويلة تُقنّن الازدواجية، أم إلى تسوية تعيد بناء الدولة، أم إلى تشظٍ يجعل الخرائط أكثر من واحدة والأثمان أفدح من أن تُحتمل.