منوعات

بين الخرطومِ وانتظارِ المجدلية..ضاعت سنين

أمجد الشعرابي (*)

في خواتِيمِ القرن الماضِي، في مساءٍ مليءٍ بالدهشة على فندق رمادا بالدوحة، غنَّى مصطفى سيد أحمد أغنية لو لم يغنِّ غيرها لكتبت تاريخهُ ورجحت كفَّته عمَّن سواه.. 

صعد مصطفى المسرح.. بجسدٍ أنهكه المرض وشتته المنافي، وأرهقه السفر.. صعد ثم ساق ملحمةً لن تُغبرها الأيام والسنين: 

هاهي

الأرضُ تغطَّت بالتعب..

والبحار اتخذت شكل الفراغ..

وأنا مقياس رسمٍ للتواصل والرحيل

وأنا الآن الترقب وانتظار المستحيل..

أنجبتني مريم الأخرى

قطاراً وحقيبة..

أرضعتني مريم الأخرى قوافي

ثم أهدتني المنافي..

هكذا قد أخبروني ثم قالوا لي ترجَّل)

يقيني أن الانفجار هنا لا زالت أثاره باقية على خشباتِ المسرح، وصدورِ كلِّ من كانوا حضوراً وشهوداً لهذا الحدثِ العظيم. 

سَرحتُ قليلاً بعد أن أخذتُ نصيبي من الدهشة..

واَتسَع قلبي بدلاً عن عينيَّ.. لهذا الصراع، فحملتُها بأدقِّ تفاصِيلها.. فما كان لجلبابِ مريم الأُخرى إلا أن يأتي على مقاسِ أرضِنا وأحزانها اليوم، هو ذاته التعب والندوبُ التي تملؤُ خاصِرة البلادِ وصدرها.. 

ونحن بهذي الندوبُ التي امتدت لصدورنا.. والرهبةُ التي اعترت ملامحنا، مقايِيسُ رسمٍ علِقنا بخطانا في منتصفِ كل الأشياء.. وانشدهنا بالترقبِ وانتظار المستحيل. 

وربما على هذهِ الأرضُ فقط.. كان التعبُّ مأساويّاً راسِماً الفرق وحائِلاً دون أن تُنجِبنا مريم الأخرى قطاراً وحقيبة.. فكان المَخاضُ حقيبةً يتيمةً تتقاذفها المنافِي والتغرَّبُ والمحطات.. 

لا لم يخبرونا بالترجَّل.. فجاء رحيلنا كالفاجِعة.. 

ثم أنتِ..

أنتِ يا كل المحاور.. والدوائر. 

يا حكايات الصبا..

تحفظين السر والمجد الذي بين نهديك اختبا

ليس يعنيك الذي قد ضاع من عمري هباء

وأنا.. لستُ أدري ما الذي يدفعني دفعاً إليك

حين ارتاد التسكع في مرايا وجنتيك..) 

هل عزيزتي لا زلتِ تحفظين السرّ الذي ما بين نهديك اِختبا.. تخبِئينهُ بتفاصِيلهِ الصغيرةِ بيننا، وأنا الذي يملؤني رماد المشاهدِ وحسرةُ الدمار خوفاً.. لا على السرِّ ومجدهِ.. بل عليكِ، وعلى حكايات الصبا.. 

لا ليس يعنيكِ الذي قد راح سهواً.. قد ضاع من عمري هباء.. صدقيني لا عليكِ. 

لستُ أدري.. أنتِ تدري بالذي يدفعني دفعاً إليكِ.. ويشدني هائماً بحنيني لمرايا وجنتيكِ.. كيف يعتادُ المنافي يا حبيبة.. من عاش عُمراً بيديك.. 

لا عليكِ.. 

يا هذهِ ال… التي تمتدُّ في دنياي

سهلاً وربوعاً وبقاع.. ما الذي قد صبَّ في عينيكِ

شيئاً من تراجيديا الصراع..) 

تمتدِّين فيني امتداد الروح..

امتداد الروحِ في صدرِ المحبِ المولعِ المشتاق..

وأنا الذي ضيعتني وجنتيكِ.. يؤسفني اعتصارُ الوحشة في اِغترابي.. حزناً وحنِيناً وضياع. 

ما الذي.. قد كان.. حتى يهِيجُ في الآتي.. فصلاً من تراجيديا الصراع! 

لا لا عليكِ..

والمدى

يمتدُّ وجداً

عابراً هذي المدينة..

خبريني.. 

هل أنا أبدو حزيناَ

هل أنا القاتل.. والمقتول حِيناً.. والرهِينة..

هل أنا البحر الذي.. لا يأمنُ الآن السفِينة) 

هو الخيطُ الوحيد الذي..

بقى وامتدَّ عابراً هذي المدينة.. هو الحُزن الذي ظلَّ شاهداً يعدُّ خطوات التواصلِ والرحيل.. 

خبريني.. هل يفيضُ الوجدُّ من عينيَّ لوعة!

هل أبدو في التيهِ حزِيناً..

في المسرحِ القاتم هناك.. هل كنتُ أدواراً ثلاث!

قاتلٌ للحبِ.. مقتولُ الحنينِ.. للشوقِ رهينة!

خبريني..

كيف يأمن البحر الذي قد ذاق آهاتِ المدينةِ.. ذات يومٍ للسفينة!

ضيعتني..

ضيعتنا.. ضيعت مريم الأخرى

شعباً حزيناً في اِنتظارِ المجدلية..

آه لو تأتين من عميقِ الموج..

من صلب المياه..

كالرحيل.. كالترقبِ وانتظار المستحيل..) 

هو الانتظار الذي لا نملَّه..

ولا يملهُ من ذاق حضناً بين نهديكِ.. لِانتظارِ المجدلية.. 

آه لو تأتين ليذوب الحزن فينا.. وينبتُ في رماد الروحِ إكليلُ الورود. 

كالرحيلِ يامريم.. هل نودُّ المستحيل..) 

بين الخرطومِ وانتظارِ المجدلية.. 

ضاعت سنين. 

الثامنة مساءً

الأحد ٢٠ أبريل_نيسان.

الغربة، بعيداً عن مريم.. في انتظار المستحيل.

 

شاعر وكاتب سوداني (*)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى