
المؤسف أن هذا الحوار لم تنشره الحياة اللندنية كما رتبت له. فالواقع أن شريط التسجيل الذي كان في حجم علبة الكبريت قد ضاع مني في زحمة انشغالي بتفريغ أشرطة مشابهة أقوم فيها بتسجيل الحوارات السياسية، والثقافية، التي كنت أعدها للصحيفة. ولا زلت حتى اليوم بعد هذه العقود الثلاثة يلفني الأسى على هذا الحظ التعيس الذي جعلني اعتمد على جهاز التسجيل.
فحوار الحياة اللندنية خلافاً لحوار “الشرق الأوسط” تميز بالمباشرة، والأريحية، في طرح الأسئلة، وعالجها الشاعر الذي يصب النثر صباً بإجابات دافقة. إذ بكثير من الثقة في نفسه فلسف فيها رؤيته على السجية دون أن يسنسرها، بالطريقة التي – ربما – فعل بالقلم الذي يعود ليراجع الإجابات الحوارية المكتوبة.
وتلك هي ميزة الحوار المباشر، إذ يمكن متابعة الإجابة بسؤال آخر للتوضيح، وهكذا يمكن أن تولد الإجابة الواحدة عدة تساؤلات، فضلاً عن ذلك فإن المحاور.
الصحفي يدرك من حركة الجسد، وتعبيرات العيون، والصمت أحيانا قبل الاسترسال، والضحك أثناء الإجابة، أو تعبيرات الوجه عموماً، ما لا يدركه عبر الحوار الذي يأتي فقط بإجابات مكتوبة لأسئلة محددة معدة مسبقا.
فالصحافي المحاور الحصيف لا يلجأ لهذا النوع من الحوارات إلا في ظروف استثنائية. وعندئذ تبقى الإجابة في كثير من الأحيان بلا روح. ومع ذلك يلجأ الصحافيون أحيانا لاستخراج أسئلة جديدة من الإجابات، وإرجاعها للمحاوَر، وتُنشر المادة هكذا فيظن القارئ أن الحوار كان مباشراً.
وقد لجات إلى هذا الأسلوب لإكساب الحوار بعض الحيوية. ولكن لم يكن لي من خيار كهذا في حواري الأول مع صلاح.
إبراهيم أكثرنا سودانيةً، وظل في غربته يتوسل نجيمات بعيدة علها ترسل تحياته لشعبه، كما قال في الحوار الثاني.
وهكذا لم ينفصم حاله المغرب عن تفاصيل قصيدته التي صعد بها وردي إلى أعلى سقوف الجمال اللحني. وأذكر أنه دار حوار بين إخوان لنا حول أيهما أكثر عمقاً، نص صلاح، أم لحن وردي؟، ومهما كانت الآراء فإن “الطير المهاجر” كعمل فني متكامل شعراً، ولحناً، وأداءً.
تمثل أيقونة الغناء السوداني الذي وصل إلى قمة نضوجه الحداثي، ويقال – والعهدة على الراوي – إنه حين خرجت الأغنية بعد الخلاف الذي نشب بين الشاعر وحزبه سألوا الأستاذ عبد الخالق محجوب عنها فرد بقوله: “هكذا يكون الشعر، وهكذا يكون الغناء” دون أن يخلط بين موقفه السياسي من صلاح وشفافية التقييم الفني.
حياة المثقف صلاح، أحمد إبراهيم بكل وعدها، وإحباطها، تمثل من ناحية أخرى ثقل المشكل السوداني بتفاصيله كافة على مبدعينا الذين حاولوا الصدق في التعبير بالقلم، والريشة، والصوت. ولكن عدم تفهم السياسيين لهذه الهوية المركبة للبلاد، وموضعة معطياتها على مستوى الدولة بكثير من العقلانية خذل أجيال المثقفين المتعاقبين فضاعت القدرات الذاتية لكثير منهم بين إحسان الظن في الحاكم الديكتاتور، وكذلك الحاكم خريج السربون، وأكسفورد.
ورحل صلاح – رحمه الله – حاملاً معه مرارة المواقف، وفداحة الكسب الوطني للسودانيين، وضعف حيلة الشاعر.