
في خضم الجدل المتصاعد حول تأثيرات سد النهضة الإثيوبي، انفجرت موجة من القلق الشعبي في السودان خلال الأيام الأخيرة بعد انتشار صور على منصات التواصل الاجتماعي وُصفت بأنها توثق كارثة مائية نتيجة فتح بوابات السد بشكل أحادي. الصور، التي أظهرت منازل غارقة ومواطنين محاصرين وسط السيول، غذّت رواية أن إثيوبيا تعمدت إغراق مناطق سودانية عبر تصريف كميات هائلة من المياه، بالتزامن مع زيادة الأمطار الموسمية. خلال ساعات قليلة، حصدت الصور أكثر من 200 ألف مشاهدة وتفاعل، لترسّخ في أذهان كثيرين مشهدًا كارثيًا قادمًا.

لكن ما كشفه التحقيق الإعلامي الذي أجرته شبكة CNN بالعربية بدّد هذه المزاعم، إذ تبيّن أن الصور تعود لأعوام سابقة بين 2019 و2022، وتتعلق بفيضانات موسمية شهدتها قرى مثل ودرملي والمناقل والنيل الأزرق، ولا علاقة لها بتطورات آنية مرتبطة بسد النهضة. غير أن هذه المفارقة بين الصورة والحقيقة لم تلغِ حجم المخاطر الواقعية التي يشهدها السودان في الوقت الراهن، بعد إعلان وزارة الري حالة الطوارئ القصوى نتيجة تسجيل ارتفاع غير مسبوق في مناسيب نهر النيل، وسط مخاوف من أن تتحول الأزمة إلى كارثة بيئية وإنسانية.

المعادلة تبدو أكثر تعقيدًا مع دخول العامل السياسي والتقني في المشهد. فوفقًا لتصريحات الدكتور دوميط كامل، رئيس حزب البيئة العالمي، فإن طريقة تعبئة سد النهضة وتشغيل توربيناته لا تخضع للمعايير العلمية المطلوبة، حيث لم يُفعَّل سوى أربعة توربينات من أصل أربعة عشر، ما اضطر السلطات الإثيوبية – حسب تقديره – لفتح بوابات السد بشكل مفاجئ لتصريف المياه. النتيجة، وفقًا له، كانت تدفق نحو 750 مليون متر مكعب يوميًا باتجاه الأراضي السودانية، وهو رقم بالغ الخطورة في ظل غياب خطط مشتركة للتعامل مع هذه الكميات الهائلة.

إلى جانب الخلل التقني، جاءت العوامل المناخية لتضاعف حدة الأزمة. حركة الكتل الهوائية القادمة من أوروبا والمتوسط والأطلسي جلبت معها أمطارًا غزيرة غير معتادة، فيما ساهمت الرياح العكسية في تراكم المتساقطات على نحو غير مسبوق. هذه التوليفة المناخية – مع سوء التنسيق في تشغيل السد – خلقت ضغطًا مائيًا هائلًا أجبر السودان على رفع “الإنذار الأحمر” وتحذير السكان المقيمين على ضفاف النيل من احتمالية الفيضانات العارمة.

المخاطر لا تتوقف عند حدود السودان. فالتقديرات تشير إلى أن كميات المياه المتدفقة قد تصل إلى مصر خلال عشرين يومًا، ما يضع القاهرة أمام معادلة دقيقة تتعلق بقدرة السد العالي وباقي منشآت التخزين على امتصاص هذا التدفق. ورغم امتلاك مصر خبرة طويلة في إدارة الفيضانات واحتواء المياه، إلا أن غياب لجنة مشتركة مع السودان وإثيوبيا لمراقبة أداء السد يخلق فراغًا استراتيجيًا يفتح الباب أمام مفاجآت غير محسوبة، خاصة أن سد النهضة لا يزال حديث الإنشاء ولم يخضع لاختبارات كافية في بيئة زلزالية نشطة.

بالنسبة للسودان، تبدو المخاطر أكثر إلحاحًا. هشاشة البنية التحتية، ووجود مجتمعات محلية قريبة من مجاري النيل والأراضي الزراعية المنخفضة، تجعل من أي خلل في التصريف أو انهيار جزئي محتمل تهديدًا وجوديًا. أما بالنسبة لمصر، فالمخاطر تتجلى في بعدين متوازيين: الأول مائي يرتبط بقدرة منشآتها على استيعاب التدفقات المفاجئة، والثاني سياسي يتعلق بغياب الاتفاق القانوني الملزم الذي طالبت به طويلاً لتقنين ملء وتشغيل السد.
الأخطر أن انتشار صور مضللة ومعلومات خارج سياقها – كما حدث في هذه الأزمة – يزيد من ضبابية المشهد، ويُربك الرأي العام، ويضع الحكومات أمام ضغط شعبي متزايد في لحظة حساسة. هنا تتقاطع أزمة المعلومات مع أزمة المياه لتشكلا معًا تحديًا مزدوجًا.

إن ما يجري اليوم يعيد التأكيد على أن قضية سد النهضة ليست مجرد ملف تقني أو سياسي، بل هي معضلة مركبة تتشابك فيها البيئة والمناخ والإعلام والسياسة. بالنسبة لمصر والسودان، فإن المخاطر تتراوح بين فيضانات مدمرة تفوق قدرات الاستيعاب المحلية، وبين احتمالات أبعد أفقًا تتعلق بسلامة السد ذاته في بيئة جيولوجية معقدة. وفي ظل غياب التنسيق الثلاثي، تبقى كل الاحتمالات مفتوحة، فيما يظل المواطن السوداني والمصري هو الحلقة الأضعف التي تدفع ثمن سوء الإدارة والجمود السياسي.
هذا المشهد يستدعي أكثر من أي وقت مضى مقاربة إقليمية شاملة تتجاوز الخطابات المتبادلة، وتؤسس لآلية حقيقية لإدارة النيل وسدوده كمنظومة متكاملة. لأن أي انهيار في معادلة المياه اليوم لن يكون مجرد أزمة محلية، بل كارثة عابرة للحدود تهدد الأمن المائي والغذائي لشعوب المنطقة بأكملها.