“السودان ودول أخرى نماذجاً”.. تصنيفات الدولة في إفريقيا : بين الفشل والتفكك والهشاشة
عبد الجليل سليمان

شكّل سؤال الدولة ومصيرها محوراً مركزياً في الفكر السياسي الحديث. وقد وضع ماكس فيبر تعريفاً مؤسِّساً للدولة باعتبارها: «جماعة بشرية تدّعي بنجاح احتكار الاستخدام المشروع للعنف المادي داخل إقليم معيّن» (Weber, 1919). هذا التعريف يجعل معيار احتكار العنف المشروع (Monopoly of Legitimate Violence) مقياساً جوهرياً لوجود الدولة.
أما تشارلز تيلي فقد ربط نشوء الدولة الحديثة بعمليتي الحرب والاستخراج المالي، مؤكداً أن: «الدول صنعت الحروب، والحروب صنعت الدول» (Tilly, 1985)، أي أن القوة التنظيمية والمؤسسية هي شرط الاستمرارية.
ويرى فرانسيس فوكوياما أن ضعف الدولة لا يُقاس فقط بشرعية القوانين بل بقدرة المؤسسات على إنفاذها، قائلاً: «القوانين قد تُكتب على الورق، لكن من دون مؤسسات قوية تصبح حبراً بلا أثر» (Fukuyama, 2004).
أما روبرت روتبرغ فقد قدّم تمييزاً تحليلياً بين الدولة الهشّة (Fragile State) والدولة الفاشلة (Failed State) والدولة المنهارة (Collapsed State)، معتبراً أن: «الدولة تفشل حين تعجز عن تقديم السلع والخدمات السياسية الأساسية، وتنهار حين يتبخر وجودها ذاته» (Rotberg, 2004).
انطلاقاً من هذه المرجعيات النظرية، يمكن تحليل ست حالات إفريقية (السودان، جنوب السودان، الصومال، إريتريا، إفريقيا الوسطى، الكونغو الديمقراطية) كنماذج متباينة تُجسّد أطياف “حالات الدولة” (Statehood) بين الفشل والهشاشة والتفكك.
1. السودان
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، فقدت الدولة السيطرة على العاصمة ومعظم الأقاليم، وتراجعت الخدمات العامة، وبرزت سلطات متوازية (الجيش، قوات الدعم السريع، جماعات محلية). بذلك يُصنّف السودان كـ دولة فاشلة (Failed State)، تقترب من نموذج الدولة المفككة (Fragmented State) نتيجة تعدد مراكز القوة.
2. جنوب السودان
رغم وجود حكومة مركزية في جوبا، إلا أن مؤسساتها ضعيفة وتعتمد على اتفاقيات سلام هشة لا تمنع تجدد العنف. منذ 2011، ظلّت في قمة مؤشرات الهشاشة العالمية، ما يجعلها نموذجاً كلاسيكياً لـ الدولة الهشّة (Fragile State).
3. الصومال
انهارت مؤسسات الدولة بعد 1991، لتصبح مثالاً على الدولة المنهارة (Collapsed State). لاحقاً، أعيد تأسيس حكومة في مقديشو، لكنها لا تسيطر على كامل التراب الوطني في ظل وجود جماعة الشباب المجاهدين وأقاليم شبه مستقلة. حالياً يصنّف الصومال كـ دولة فاشلة/هشّة (Failed/Fragile State).
4. إريتريا
ليست دولة فاشلة، بل تمثل نموذجاً لـ الدولة السلطوية الصلبة (Authoritarian Strong State)؛ إذ يحتكر النظام السلطة والأمن عبر عسكرة المجتمع، رغم غياب التنمية والشرعية الديمقراطية. توصف في الأدبيات أحياناً بـ الدولة الحصينة (Fortress State) أو الدولة الحارسة (Garrison State).
5. إفريقيا الوسطى (CAR)
منذ 2013، تراجعت سلطة الدولة إلى العاصمة بانغي ومناطق محدودة، بينما تسيطر جماعات مسلحة متعددة على بقية البلاد (سليكا، أنتي بالاكا، تحالفات أخرى). تُصنّف كـ دولة مفككة (Fragmented State).
6. جمهورية الكونغو الديمقراطية (DRC)
تمثل نموذجاً لـ الدولة الهشّة (Fragile State)؛ إذ توجد حكومة ومؤسسات مركزية، لكنها عاجزة عن فرض سيطرتها على الأقاليم الشرقية (كيفو، إيتوري). توصف كذلك بأنها دولة ضخمة فاشلة جزئياً (Partially Failed Giant State).
تُظهر هذه النماذج أن مفهوم الدولة في إفريقيا جنوب الصحراء يتراوح بين الانهيار الكامل والسلطوية الصلبة، ما يؤكد الحاجة إلى فهم تفصيلي لاختلاف السياقات. إنّ استخدام مصطلحات دقيقة مثل الهشّة (Fragile)، الفاشلة (Failed)، المنهارة (Collapsed)، المفككة (Fragmented)، السلطوية الصلبة (Authoritarian Strong)، يتيح قراءة أكثر ضبطاً من التوصيف العام بـ”الفشل”. وبهذا، تصبح دراسة الدولة في إفريقيا مدخلاً أساسياً لفهم أزماتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل وأحد مفاتيح التفكير في مستقبلها.