
في مساءٍ رطبٍ من عام 1959، وُلد بن أوكري على ضفاف النيجر، في مدينة واربري الواقعة جنوب نيجيريا عند دلتا النهر، جنوب شرق العاصمة القديمة” ليغوس”، حيث يتهامس الماء مع الطبول، وتُروى الحكايات للأرواح قبل أن تُروى للأطفال.
هناك، في تلك الرقعة التي يختلط فيها المطر بالأسطورة، خرج الطفل من رحم الطبيعة كما تخرج القصيدة من فم المغني الأول.
منذ الليلة الأولى، كان واضحًا أن هذا المولود لن يمرّ بالحياة مرور العابرين، بل سيعيد كتابتها كما يُعاد ترميم الحلم المكسور.
وحين هاجر صغيرًا إلى لندن، اكتشف أن الثلج يمكن أن يكون قاسيًا كالمنفى، وأن الغربة ليست مكانًا بل نغمةٌ داخل الجسد لا تنطفئ.
جسده ظلّ هناك، لكن روحه بقيت في إفريقيا تمشي على الطين وتُصغي لطبول الأجداد العائدين من الغياب.
طريق الجوع
في روايته الكبرى «طريق الجوع» (The Famished Road, 1991)، فتح أوكري بوابةً سرّية بين العالمين “الأحياء والأرواح”، جعل الطفل “أزارو” يمشي في شوارعٍ تختلط فيها السياسة بالفقر، والعفاريت بالبشر، كأن الحياة سوقٌ للأكوان.
كل مشهد يبدو واقعيًا حتى تلمسه، فيتبدّد مثل ضوءٍ على صفحة ماء.
هنا تتحوّل الواقعية السحرية إلى فلسفة إفريقية للوجود، تقول إن العالم ليس ما يُرى فحسب، بل ما يُورَّث من أصواتٍ وظلالٍ ونداءاتٍ غامضة.
وفي العام نفسه، تُوِّج أوكري بجائزة بوكر الأدبية البريطانية عن هذه الرواية، ليصبح بذلك أحد أصغر الفائزين بها سنًا، وأول كاتب نيجيري ينالها، إذ بدت لجنة التحكيم كما لو أنها منحت الجائزة لروحٍ جديدة في الأدب أكثر من منحها لشخص.
لم يبدُ أوكري كمن انتصر، بل كمن استعاد شيئًا ضاع منه منذ الطفولة ؛ “صوته الأول، حين كانت الحكاية صلاةً على لسان النهر”.
أغنيات السحر
واصل أوكري رحلته في «أناشيد السحر» (Songs of Enchantment, 1993) و” ثروات لا متناهية» (Infinite Riches, 1998)؛ حيث لم يعد السحر تزيينًا بل كشفًا، ولا الخيال هروبًا بل مقاومة.
في هذه الثلاثية، تتصالح الأرض مع السماء، ويغدو الإنسان جسراً بين الذاكرة والأسطورة.
كتب كما يُصلي لا كما يروي، كأن الكلمة عنده كائنٌ حيّ يستدعي الوجود.
في كل نص، يُعيد تعريف الحلم؛ “ليس ما نراه ونحن نائمون، بل ما نحتاجه لنستيقظ”.
لغة الأرواح
لغة بن أوكري ليست أداة بل كينونة.
إنها إنجليزية إفريقية مطعّمة بالظل والمطر والحنين؛ استعارت من الغرب مفرداته، لكنها غسلتها بماء النيجر وأعادتها نضرةً كما خرجت من فم الحكّائين الأوائل.
في جُمله الطويلة موسيقى تتصاعد كما تتصاعد تراتيل القبائل عند استدعاء المطر.
يكتب كما يغنّي الشامان في الغابة، لا يصف العالم بل يُعيد خلقه من رماده.
ولأن اللغة عنده تُشفى بالحلم، فهي تُقاوم النسيان، وتُحوّل الحكاية إلى جسدٍ نابضٍ بالحياة.
هو لا يستخدم السحر لتجميل الواقع، بل لفهمه؛ لأن الحقيقة في نظره لا تُرى إلا بعيونٍ نصف مغلقة، تنظر إلى العالم من داخل الروح.
نبيّ الحلم
في المشهد الأدبي العالمي، يقف بن أوكري مثل عرّافٍ خرج من بين أشجار المانغروف، يحمل كتابًا مكتوبًا بالحلم والدمع والضوء.
لم يأتِ ليحكي عن إفريقيا، بل ليوقظها من نومها الطويل في خيال الآخرين.
كتبها كما تُكتب النبوءة: لا بالمنطق بل بالبصيرة.
ومن بين ضجيج السياسة والاستعمار، أنصت إلى همس الأرواح وهي تقول: إن الحياة، مهما قست، تظلّ معجزة.
هو روائي وشاعر وكاتب قصص قصيرة، ونبيّ الواقعية السحرية الإفريقية لأنه لم يستعر السحر من ماركيز أو بورخيس، بل استخرجه من طمي النيجر ومن حكمة الأجداد، من إيمانه بأن العالم ليس طبقة واحدة من الواقع، بل حديقة من الأزمنة المتداخلة.
ربما كان آخر الحالمين الكبار الذين يكتبون كما يُصلّي الكهنة القدامى؛ ليس ليقنعوا أحدًا، بل ليحافظوا على توازن الكون.
وحين نقرأه، نشعر أن الكلمات تنبت من الأرض، تُضيء، ثم تمضي، تاركةً وراءها أثرًا من العطر والذهول.