مقالات

لَاسلو كْرَاسْنَهوركاي : الراهب الذي كتب من حافة القيامة

عبد الجليل سليمان

في التاسع من أكتوبر 2025، أضاءت الأكاديمية السويدية اسمًا خرج من رماد بودابست كما يخرج اللوتس من المستنقع؛ “لاسلو كراسنهوركاى”؛ الساحر المجري، الذي جعل من اللغة ممرًا نحو الهاوية، ومن الأدب طقسًا روحانيًا يداوي الخراب بالخراب نفسه.

 

نوبل اليوم لم تكرّمه بقدر ما اعترفت بعجزها أمامه. لقد كتب كما لو أن العالم سينتهي بعد آخر جملة، وكأن الحروف آخر محاولة لفهم الله في صمته الطويل.

 

طفل الخراب

وُلد لاسلو عام 1954 في مدينة “غولا” المجرية، بعد عقدٍ واحد من الحرب العالمية الثانية،

وفي ظلّ بلدٍ ممزق بين رماد النازية وحديد الشيوعية.

 

أبوه موظف سكك حديدية، وأمه معلمة؛ وكان هو الطفل الذي يقف في الفناء الطويل، يراقب القطارات وهي تمضي،

يسأل نفسه: “إلى أين يذهب الناس حين يرحلون بلا وجهة؟”

 

منذ ذلك السؤال بدأت روايته الأولى، وإن لم يكتبها بعد.

 

نشأ في بودابست حين كانت المدينة تُدار كما يُدار السجن الكبير، لكن روحه لم تكن قابلة للتأميم. درس القانون ثم الأدب، لكنه ترك الجامعة لأن الحقيقة لم تكن في القاعات، بل في الأزقة.

 

لم يكن شيوعيًا ولا عدوًا للشيوعية، بل كان معارضًا لكل نظامٍ يحاول ترتيب الفوضى.

 

قال ذات مرة: “كل محاولة لتنظيم الحياة خطأ، الفوضى وحدها تعرف الطريق.”

 

بذور العتمة

حين كتب ساتانتانغو (رقصة الشيطان) عام 1985، كان كمن يعزف سيمفونية الجنون على أطلال المزارع الجماعية الميتة. رواية من 400 صفحة وجملة واحدة طويلة لا تنتهي، جعلت النقاد يصفونه بـ“جويس المجري” و“بيكيت آخر الزمان”.

 

لكن كراسنهوركاي لم يكن يقلّد أحدًا. كان يبحث عن صوتٍ يشبه صمت الريح حين تمر فوق الأطلال. قال في إحدى مقابلاته النادرة: “أنا لا أكتب قصصًا، بل أدوّن سقوط العالم في جملةٍ واحدة.”

 

روايته كآبة المقاومة التي ألهمت فيلم بيلا تار العظيم تانغو الشيطان، كانت ملحمة عن العبث السياسي، عن الجماهير التي تبحث عن مخلّصٍ في حوتٍ ميت، عن الأمل الذي يُباع في الأسواق مع الأسماك الفاسدة.

 

الشريك في الظل

من النادر أن يُذكر (كراسنهوركاى) دون أن يُذكر صديقه المخرج بيلا تار. بينهما وُلد أحد أكثر الثنائيات إبهارًا في تاريخ السينما والأدب.

 

تحوّلت كآبته إلى لقطات طويلة تمتدّ كالأبدية، وصمته إلى موسيقى بصرية تحرق الزمن.

 

كانا يسيران في بودابست المبتلة بالمطر، يتحدثان عن الكون كأنه مخرج فاشل، وعن الإنسان كأنه ممثل نسي دوره. وفي تلك الحوارات الليلية، تشكّلت رؤيتهما “أن العالم لا يُفهم إلا إذا نظرت إليه من نهايته”.

 

جمال الانهيار

في سيوبو كانت هنا أدناه، كتب كراسنهوركاي الرواية كما تُكتب الصلاة.

 

رحلاتٌ في اليابان، الصين، إيطاليا، بحثًا عن الجمال وسط الحطام، وعن الروح وسط الحجر. كانت الرواية مجازًا عن الإنسان حين تضّل الحقيقة في داخله.

 

لغته أشبه بماءٍ أسود يتلألأ في العتمة، تسير الجملة عنده كأنها نهرٌ لا يريد أن يصبّ في أي بحر.

لا يعتمد الحبكة، بل يخلق تيارًا من الفكر والهلوسة والتأمل،

كأن الكتابة لديه نوع من الجنون المنظم، نبوءة تُتلى ببطءٍ كي لا تنكسر.

 

الراهب الأخير

لا يحب المقابلات، لا يقيم في المدن الكبرى، يعيش وحيدًا، يسافر ببطء، يكتب ببطء، يؤمن أن العالم الحقيقي لا يُرى إلا من عزلةٍ طويلة.

 

حين زار كيوتو، قال له راهبٌ : “من يكتب مثلك لا يبحث عن المعنى، بل يخلقه.”

ابتسم كراسنهوركاي وأجاب: “أنا فقط أحاول ألّا أفقده.”

 

اعتراف متأخر

واليوم، حين جاءته نوبل، لم يُفاجأ. لأنه كان يعلم أن الزمن سيعود إليه كما يعود الضوء إلى شمعةٍ منسية.

 

الذين قرؤوه من قبل لم يكونوا جمهورًا، بل طائفة. والذين يقرؤونه بعد اليوم سيعرفون أن الأدب لا يُكافأ، بل يُصلى له.

 

كتب عن الانهيار فصار شاهده،

عن العدم فصار ناطقه،

عن الله فصار صمته.

 

نهاية مفتوحة

في عالمٍ تسيّده الضجيج، جاء كراسنهوركاي ليذكّرنا بأن الهمس يمكن أن يكون أكثر دويًّا من الصراخ.

 

أن الجملة الطويلة، إذا كُتبت بصدق، يمكن أن تحتمل العالم كله دون أن تتنفس.

 

نوبل لم تمنحه المجد، هو من أعاد إليها معناها.

 

منحه الأدب المجدَ منذ زمنٍ بعيد، حين اختار أن يعيش في الظل ويكتب في النور.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى