تقارير

السودان: توحّش الميدان الذي يهدد بتمزق الدولة

تقرير - رشا رمزي

في لحظة تزداد فيها خطوط النار التباسًا، يتحول السودان إلى مسرح مفتوح للفوضى المسلحة. فالهجوم الواسع الذي شنّته قوات الدعم السريع على مواقع الفرقة السادسة مشاة بمدينة الفاشر، صباح الأحد، لم يكن مجرد اشتباك جديد في حرب طويلة، بل كان محاولة حاسمة لكسر ما تبقى من توازن هش بين الجيش والدعم السريع في إقليم دارفور. معارك الفاشر، التي اتخذت طابعاً شرساً غير مسبوق، جاءت بعد حصار خانق فرضته قوات الدعم السريع على المدينة لأسابيع، في مسعى للسيطرة على آخر معاقل الحكومة المركزية شمال الإقليم. ومع أن الجيش السوداني تمكن من صد الهجوم بعد قتال ضارٍ استُخدمت فيه الدبابات والمدفعية والطائرات المسيّرة، إلا أن أصداء المعركة تركت المدينة غارقة في الدخان والدمار، فيما يعيش سكانها حالة رعب دائم تحت القصف وانعدام الغذاء والدواء.

مدينة الفاشر

مع حلول المساء، تحولت الفاشر إلى مدينة أشباح، يخيّم عليها صمت ثقيل تقطّعه أصوات المدافع من حين لآخر. لجان المقاومة تحدثت عن قصف عشوائي طال الأحياء السكنية ومراكز الإيواء، وعن توقف عمل التكايا والمطابخ الجماعية ونفاد المواد الغذائية. النساء والأطفال وكبار السن يواجهون المجاعة ببطون خاوية، في ظل غياب شبه تام للمنظمات الإنسانية. المدينة التي كانت يوماً مركزاً للحياة السياسية والتجارية في دارفور، باتت الآن رمزاً للعزلة والموت البطيء، تئن تحت وطأة الحصار فيما يتفرج العالم من بعيد.

نازحي الفاشر

وفي الوقت الذي يشتد فيه الخناق على الفاشر، تتهاوى الخرطوم من الداخل، غارقة في الفوضى والانفلات الأمني. حادثة مستشفى بشائر جنوبي العاصمة كشفت الوجه المظلم للمدينة التي لم تتعافَ من الحرب بعد. أحد عناصر القوة المشتركة التابعة لجناح مناوي لوّح بتفجير المستشفى بقنبلة يدوية عقب وفاة زميله المصاب، ما دفع الكوادر الطبية إلى الهروب وترك المرضى خلفهم في مشهد يجسد انهيار منظومة الأمن والضبط العسكري. ورغم التعليمات الصريحة التي أصدرها الفريق عبد الفتاح البرهان بسحب جميع التشكيلات من العاصمة، فإن الحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش لا تزال تملأ الشوارع وتفرض سطوتها على المرافق المدنية. المستشفيات التي يفترض أن تكون مناطق آمنة أصبحت جبهات جديدة للصراع، وأطباء الخرطوم يعملون في ظروف أقرب إلى ساحات القتال منها إلى غرف العلاج.

مدينة الفاشر

استمرار الاعتداءات على مستشفى بشائر، الذي تدعمه منظمة “أطباء بلا حدود”، يعكس عمق الانهيار الذي تعيشه العاصمة. فقد تحولت المنشأة الطبية، شأنها شأن غيرها من المرافق الخدمية، إلى نقطة هشّة في مشهد تتداخل فيه الولاءات المسلحة، وتغيب فيه السلطة المركزية. وتوقّف العمل في المستشفى أكثر من مرة خلال يومين بسبب تهديدات مباشرة من عناصر مسلحة، في وقت تعاني فيه الخرطوم من نقص حاد في الإمدادات الطبية وغياب كامل للأمن. المشهد برمّته يختصر مأساة العاصمة: مدينة مهدّمة تتنازعها البنادق، وسلطة عاجزة عن ضبط فصائلها.

مدينة الفاشر

وإذ ينشغل طرفا الصراع بالقتال في دارفور والخرطوم، يشتعل نزاع آخر في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان، حيث نفذت بعثة الأمم المتحدة (يونيسفا) عملية إجلاء واسعة لأكثر من مئة مدني بعد اندلاع اشتباكات عنيفة بين قوات مشتركة من دفاع شعب جنوب السودان وعناصر من المعارضة المسلحة. التفاصيل الميدانية للحادث تبدو عبثية؛ مواجهة دموية بدأت بسبب خلاف شخصي بين ضابطين حول امرأة، لكنها انتهت بمقتل 14 جندياً وانسحاب مئات المقاتلين من مواقعهم نحو الشمال. هذا الانفلات يختصر هشاشة البنية العسكرية والسياسية في المنطقة، التي لا تزال عالقة بين دولتين تتنازعان السيادة عليها منذ أكثر من عقد.

مدينة الفاشر

في أبيي، كما في الفاشر والخرطوم، تتشابه الملامح: انهيار في الانضباط، غياب الدولة، وتحوّل الميدان إلى سلطة للسلاح وحده. بعثة يونيسفا تحاول بجهود محدودة احتواء الموقف وتوفير مأوى للمدنيين، لكنها تبدو كمن يضع ضمادة صغيرة على جرح غائر في جسد بلد يتداعى.

من دارفور إلى الخرطوم وصولاً إلى أبيي، يرسم السودان خريطة حرب تتجاوز حدود الجغرافيا إلى قلب الدولة ذاتها. فالصراع لم يعد بين جيش نظامي ومليشيا متمردة، بل بين جماعات مسلحة تتنازع السلطة وتستبيح الأرض والناس. في ظل هذا المشهد الكارثي، تتآكل فكرة الدولة وتضمحل قدرة المركز على الحكم، بينما يتحول المواطن السوداني إلى رهينة بين جيوش لا تعرف سوى لغة النار. إن استمرار هذا الانهيار لا يعني فقط سقوط المدن الواحدة تلو الأخرى، بل سقوط السودان نفسه ككيان سياسي قابل للحياة، ما لم يتوقف النزيف وتستعيد الدولة، ولو مؤقتًا، قدرتها على الإمساك بزمام الميدان.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى