
ثقوب في ثوب العدالة
المتابع لتاريخ القضاء في السودان عموماً ومدينة كوستي خصوصاً، يلاحظ أن هناك ثقوباً في ثوب المحكمة وبثوراً تركت علامات عبر السنوات.
قضية الطالب أحمد هجو أعادت للأذهان تفاصيل مشابهة لقضية الطالب (ح. ط) في العام 2010، التي كادت أن تطيح بمستقبل طالب طموح لولا تدخل الأقدار.
في كلتا الحالتين، برزت أخطاء وثغرات إجرائية، وغياب للعدالة، وتعمد بعض الجهات طمس الحقائق.
ثغرات فادحة في الإجراءات
قال مصدر مطلع إن القاضي رفض طلب الدفاع (صلاح عبولي) بمناقشة الطبيب الذي أجرى الفحص للفتاة.
كما أشار المصدر إلى أن أحمد في يوم الحادثة كان في مناسبة زواج، وشهد عدد من الحضور بأنه رجع إلى منزله بعد الحفلة، إلا أن المحكمة تجاهلت تلك الإفادات.
الأدهى أن المتهم الثالث في القضية، وهو من أعمدة الاتهام الثلاثة، اختفى أثناء سير المحاكمة، ومع ذلك لم يتأثر مسار البلاغ، وهو ما يعد خللاً قانونياً كبيراً.
أقوال متضاربة وتلاعب بالتقارير
أفادت مصادر من داخل الوحدة الشرطية بأن هناك قناعة وسط عدد من أفراد التحري بأن أحمد تم إقحامه في البلاغ ظلماً.
بل إن أقوال الشاكية وصديقتها تضاربت؛ فبينما زعمت أنها اختُطفت، قالت صديقتها إنها كانت في طريقها لمقابلة شخص وعدها بالزواج ويرسل لها أموالاً بانتظام، في نفس توقيت الحادثة!
التقرير الطبي نفسه أثار شكوكاً حول التلاعب في المستندات، إذ إن أي تعديل في “الأورنيك ٨” بالقلم الأحمر يعتبر تزويراً رسمياً.
خطأ مهني في الفحص الطبي
بحسب مختص في المعالجة السريرية لضحايا الاغتصاب والعنف الجنسي، فإن التقرير الطبي يجب أن يصدر عن فريق متكامل يضم طبيباً، قابلة، باحثاً اجتماعياً ونفسياً، وممثل برنامج الإيدز.
الفحص عادة يشمل توثيقاً دقيقاً للجروح الدفاعية والاحتقانات، إضافة لإعطاء الضحية جرعة وقاية (PIP) ضد الحمل القسري والأمراض المنقولة جنسياً.
غياب هذه الإجراءات يعني قصوراً فنياً فادحاً في البلاغ من البداية.
قصور قانوني واضح
كان يفترض أن يرفض الدفاع الاستمرار في المحاكمة طالما هناك متهم هارب، لأن هروب أحد المتهمين الثلاثة يخلّ ببنية البلاغ ويضعف مصداقية الاتهام كلياً.
لكن المحكمة تغاضت عن ذلك، واستمرت حتى صدر الحكم بالإعدام، في مشهد يعكس مدى هشاشة العدالة.
ملاحظات حول القاضي
من أكثر ما أثار الجدل في قضية أحمد هجو هو القاضي الذي أصدر الحكم، إذ ان هنا ملاحظات عديدة حول ادائه برزت منذ تعيينه في فترة الحرب، وهي الفترة التي شهدت تجاوزات واسعة في الجهاز القضائي بولاية النيل الأبيض.
مصادر أكدت أن القاضي تم نقله إلى كوستي في ظروف غامضة خلال عام ٢٠٢٢، وهي فترة تفشى فيها الفساد الإداري والتعيينات التي تمت تحت غطاء الطوارئ والحرب، وسبق أن أثير الجدل في أكثر من ملف حول نزاهة الأحكام التي أصدرها.
ورغم ذلك، فإن الأمل ما زال قائماً — فبعض العاملين داخل الجهاز القضائي يؤكدون أن المرحلة القادمة من الاستئناف قد تعيد الأمور إلى نصابها، خاصة وأن الدائرة الجديدة تضم ثلاثة قضاة مشهود لهم بالنزاهة في محكمة الاستئناف.
حتى الآن، يشكك كثيرون في صحة الاعتراف المنسوب إلى أحمد، لأن المتهم أنكر التهمة في جميع مراحل التحري.
هذه الملابسات تفتح الباب مجدداً للسؤال الأخطر: هل العدالة في كوستي تُكتب تحت الضغط؟ أم تمليها ضمائر من لا يخشون الله ولا القانون؟
في كوستي، العدالة لا تُنال بالبينة، بل بمن يملك السلطة وفوهات البنادق.
وفي بلاغات الجرائم ضد الدولة، يُصدر الحكم بالإعدام أولاً، ثم تبدأ الإجراءات لاحقاً! على المدان أن يُفلت من حبل المشنقة أو من فوهة البندقية إن استطاع.
دعوة لمراجعة الحكم وإصلاح منظومة العدالة
قضية أحمد هجو ليست استثناء، بل حلقة في سلسلة طويلة من الظلم والتقصير التي شوهت وجه العدالة في كوستي والنيل الأبيض.
ما حدث في قضية الطالب (ح. ط) يتكرر بصورة أكثر قسوة، مما يؤكد أن الخلل مؤسسي لا فردي، وأن العدالة ما زالت تُدار بمزاج السلطة لا بميزان القانون.
إن الحكم بإعدام شاب في مقتبل العمر وسط تضارب في الأقوال وضعف في الأدلة وتقصير في الإجراءات، لا يمكن السكوت عنه.
فالأخطاء التي تطال حياة إنسان لا تعالج بالصمت، بل بإعادة التحقيق ومراجعة الحكم من جهة عليا ومستقلة تضع ضمير العدالة فوق أي نفوذ أو سلطة. ربما لا يعيد ذلك الثقة كاملة، لكنه يفتح الباب لوعي جديد بأن السكوت على الظلم مشاركة فيه، وأن إصلاح القضاء هو أول الطريق نحو وطن لا يُعدم فيه الأبرياء.