
الدخول إلى عالم منعم رحمة يحتاج إلى أدوات خاصة ترتقي إلى مستوى المفردة جماليات ودلاليا ولكن احاول وسعي أن اعبر واكشف عن زوايا هذا الأفق الساحر المطعم بالمضامين الإنسانية.. والبداية احاول قراءة الصورة من خلال تأملات خاطفة ومركزة حول الصورة المصاحبة للنص…
في هذه الصورة المبهرة الموقعة بعدسة المصور Pascal Bouclier 2025، نشهد مشهداً فنياً ساحراً، يلتقي فيه الغناء بالموسيقى، والرقص بالحكاية، في احتفاء حيّ بالتراث والثقافة والروح. المسرح خشبيّ دافئ، تحيط به طبقات من الخشب الصامت كأنها مقاعد متفرّجة تنتظر الانخطاف. في القلب يقف مغنٍّ يرتدي جلباباً تقليدياً، محاطاً بعازفين من ثقافات مختلفة: آلة العود، القانون، البيانو، الإيقاعات الشرقية، ومغنية تقف بجلال. أمامهم، جسدان يرقصان، يتقاطع فيهما الضوء والحركة والنغم، كأنّهما ظلّان يتناغيان مع الصوت الداخلي للعرض.
كلّ تفصيلة هنا مدروسة: السجاد على الأرض، آلات العزف الشرقية، تنوّع الأزياء، الوجوه المستغرقة، وحتى الإضاءة البنفسجية الخفيفة التي تغلّف الجو بطيف صوفيّ دافئ.
ثم ندلف إلى بطاقة موجزة عن ااكاتب
كلمة عن منعم رحمة:
منعم رحمة، صاحب النص، هو أحد الأصوات السودانية الحديثة المتوغلة في عمق الهوية، والباحثة عن معنى الوجود من بوابة الإبداع المتعدّد. شاعر، كاتب، ومسرحي، مزج في تجربته بين الكلمة والجسد واللحن. في أعماله، يتقاطع الموروث مع المعاصر، وتتجاور الحكاية مع الرؤية، فيجعل من نصوصه جسوراً تربط بين الثقافات، وتوقظ في الجمهور ذاك الحنين الدفين إلى الذات والآخر.
هذا العرض تجسيد لرؤية منعم: حيث لا تقف الكلمة عند حدود اللغة، بل تفيض وتتموّج في جسد راقص، في نغمة حالمة وفي تمازج لا نهائي بين الشرق والغرب بين ما هو كوني وما هو محلي.
عرض للنص :
**عَلى بَطْنِ راحَةِ كَفِّكَ، وَ خاطِرٍ شَفِيفٍ
تُوَكِّلُ أَمْرَ النَّوْمِ، وَتَذْهَبُ أَنْتَ
لِلتَّنَزُّهِ في حَدائِقِ اللهِ،
وَتُمْلِي كَلِماتِهِ
السَّماواتِ وَالأرْضَ
وَزِيارَةِ سَيِّدي المَسِيحِ
إِذْ …
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ
نَفافِيجُ الكَوْنِ، وَ
Aïcha
عائِشَةَ، غَشَّةَ، عُشوشَ
النَّفْسَ، الجِسْمَ، الرُّوحَ
Aïcha
صُورَةُ المَرْأَةِ عَنْ نَفْسِها الحُبُّ عَلى مَشِيئَتِهِ،
وَالوَطَنُ عَنْ عاشِقِيهِ
وَأَنا الأزْرَقُ بَنَداً…
لا أُخْلِفُ رَجُلًا فَوْقَ الفِكْرَةِ.. أَتْرُكُها حُرَّةً
لا أَحْنَثُ قَلْبًا، أُؤَجِّلُ حُزْنَهُ أُطْفِئُهُ
بِالماءِ، وَذِكْرَى مَطَرٍ راوَدَ شَجَرَهُ
وَرَجُلٍ يُؤْنِسُهُ ظِلُّهُ
وَ…الأرْضُ تُخْرِجُ ثَمَراتِها
طَمَعًا في المَغْفِرَةِ
المَوْجُ يَلْتَمِسُ البَرَّ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ
الأشْجارُ تَتَّخِذُ مِنَ الشِّتاءِ إِجازَةً
وَتَتَعَرَّى مِنْ صَفْقِها
وَحْدَها الكِتابَةُ تُحْسِنُ الظَّنَّ بي؟
وَبَيْنَهُما بَرْزَخٌ، لَهُما أَنْ يَبْغِيانِ…
شَوْقٌ هائِلٌ
شَوْقُ النَّهْدِ لِلنَّهْدِ المُجاوِرِ،
شَوْقٌ هائِلٌ
شَوْقُ النَّهْرِ لِمَصَبِّهِ وَالعَوْدِ القَهْقَرى
شَوْقٌ مَحْمُومٌ
شَوْقُ امْرَأَةٍ حَرَّرَها الطَّمْثُ وَتَرْجُو…
رَجُلًا أَثْقَلَهُ الحِمْلُ فَأَجْهَضَ حُلْمَهُ
شَوْقٌ طائِشٌ
يَشُدُّ العَصَبَ الحُلْقُومَ
وَلا يَسْتَثْنِي أَحَدًا؟**
في رحاب النص
مقدمة:
يشكل النص الشعري المعاصر ساحةً مفتوحة للتجريب والانزياح عن الأشكال التقليدية، لا سيما حين يلتقي الشعري بالوجودي والأنثوي والديني ضمن خطاب تأملي شفيف. والنص الذي نحن بصدده يمثل نموذجًا لهذا التداخل، حيث تتعدد مستوياته الدلالية، وتتقاطع فيه الرؤية الروحية بالجسدية، والتجربة الذاتية بالكونية، مما يستدعي قراءة تحليلية تنطلق من المنهج البنيوي التأويلي، وتستنير في بعض جوانبها بالمنهجين الظاهراتي والتفكيكي.
أولاً: البناء النصي والتشظي الدلالي
ينفتح النص من خلال صورة حميمة: “على بطن راحة كفك و خاطر شفيف / توكل أمر النوم و تذهب أنت”
واي صورة تشي بانفصال الوعي عن الجسد، وانخراط الذات في حالة من التسليم والتأمل، تُقابل بتجلي روحي يُحاكي السكون الصوفي. يقوم هذا الاستهلال بدور العتبة النصية التي تضع القارئ في قلب تجربة تأملية شديدة الذاتية.
تتوالى الصور بعد ذلك دون تسلسل منطقي تقليدي، في تشظٍّ بنائي واعٍ، يعكس تعددية التجربة وتكسرها، ويفتح النص على تعدد المعاني الممكنة دون أن يُقيدها مسار سردي أو زمني واضح.
ثانيًا: الروحانية والتجربة الصوفية
يحضر البعد الروحي والديني بكثافة رمزية:”و تملى كلماته السموات و الأرض / و زيارة سيدي المسيح”
هذا الحضور لا يأتي في سياق عقائدي مغلق، بل في سياق رؤيوي، تتجاوز فيه الذات حدود الزمان والمكان والدين، لتلتقي بالرموز الكبرى للغفران والمعرفة والفداء. المسيح هنا ليس فقط شخصية دينية، بل رمز كوني للسلام والألم والمعرفة، ما يضع النص في تقاطع واضح مع الأدبيات الصوفية التي ترى في العرفان مسلكًا للكتابة.
ثالثًا: صورة المرأة والتحرر من الجندر
تتحول المرأة في النص من موضوع شعري إلى ذات فاعلة، ترى نفسها وتصف علاقتها بجسدها ووجودها:”Aïcha / عائشة ، غشه ، عشوش / النفس الجسم الروح
يفكك النص الثالوث الجسدي-النفسي-الروحي للمرأة، وينزّله من الإطار الاجتماعي الساكن إلى فضاء ديناميكي، حيث تتحرر المرأة من النظرة النمطية. كما يُستدعى الاسم بالفرنسية (Aïcha) ليؤسس لتعدد لغوي وثقافي يشي بازدواجية الهوية والانتماء. “صورة المرأة عن نفسها ، الحب على مشيئته”
في هذا السطر تتجلى لحظة وعي نسوي، يرى الحب خارج منطق التملك، ويعيد تأطير العلاقة كفعل مشيئة لا خضوع.
رابعًا: الكتابة كخلاص وجودي
في سياق عام يتصف بالتشظي والخسارات الوجودية، لا يبقى للذات الشاعرة سوى الكتابة: “وحدها الكتابة تحسن الظن بي؟”
تشكل الكتابة هنا ملاذًا أخيرًا للذات، هي التعويض، وهي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على المعنى وسط عالم مأزوم. الجملة الاستفهامية تنطوي على شك، لكنها أيضًا تأكيد ضمني على أن فعل الكتابة هو الإيمان الأخير للذات.
خامسًا: الشوق كقوة كونية عاطفية وجسدية
يتحول “الشوق” في الجزء الأخير من النص إلى مركز ثقل عاطفي وجسدي ووجودي: “شوق النهد للنهد المجاور / شوق النهر لمصبه”
تشبيهات جسدية/طبيعية تتقاطع فيها اللغة الإيروتيكية مع الرمز الكوني. الشوق ليس رغبة فقط، بل قانون حركة في الطبيعة، مثل انجذاب الأنهار لمصباتها. “شوق امرأة حررها الطمث”
“رجل أثقله الحِمل فأجهض حلمه”
في هذه الصور تنقلب الأدوار: تتحرر المرأة من سجن بيولوجيتها، بينما يُثقل الرجل بأعباء الحلم/الأبوة فينكسر. يبرز هنا خطاب جندري مقلوب يعيد النظر في علاقة الأنوثة بالتحرر، والذكورة بالخذلان.”شوق طائش / يشد العصب الحلقوم / ولا يستثني أحدا؟”
يُختتم النص بهذه الصورة العنيفة، حيث يصبح الشوق قوة عامة، تعمّ الجميع، وتشبه الألم أو الفقد أو الحنين الكوني.
يطرح هذا النص الشعري تجربة متداخلة ومركبة، تتراوح بين التأمل الروحي، والجسدي، والوجودي، والكتابي، ضمن بناء لغوي مفتوح ورؤيوي. يتسم النص بمرونة عالية في استقبال القراءات، وبكثافة رمزية تستوجب التفاعل من القارئ لا الاستهلاك، مما يجعل قراءته النقدية مشروطة بالمنهج التأويلي، والقبول بالتعدد والدوران الدلالي.
إنه نص لا ينتهي، بل يتوالد على هيئة سؤال كبير حول الذات، الحب، الوطن، الجسد، والكتابة.
أخيرا يمكن القول ان هذا النص يتجاوز التصنيفات المعتادة للشعر، وينتمي إلى فضاء كتابة رؤيوية/تفكيكية، تعيد بناء الذات والعالم والجسد بلغة تتقاطع فيها الرمزية، الصوفية، الجندر، والإيروتيكا. إنه نصّ يُقاوم القراءة الخطية، ويفرض على قارئه التورط في إعادة بناء معناه من جديد.
(*) كاتب وناقد