
كان بيننا بحلو اللسان، والمعشر، فمر شفيفا، وأبياً بنفسه الشريفة. فعزمي يمثل روح العاطفة الثورية لأغنية السبعينات التي ثورها جيله الذي مثل أشواق أبناء وبنات الطبقة الوسطى في بحثهم عن التقدم الاجتماعي. إذ كانت السبعينات قد فرضت التجديد لما بذله شعراء الحقيبة، والستينات. وقد توسعت أحلام هذه الطبقة وحصدت بعضا من ثمار التواصل الإنساني، ونضج عندها التحولات السيوسيولجية الكثيفة. فكان شعراء البريد من لدن الرشيد، والنجيب، وسند، ومحمد يوسف قد واصلوا في إطباق السيطرة على عنق الغناء.
وفي دور التعليم، والصحافة، والجيش، وسائر وسائط الخدمة المدنية كان أبناء هذه الطبقة يخرجون ببوح جديد، وصريح، يتماشى مع الروح الجديدة التي انتظمت هذه المرحلة من تاريخ التحديث في أمدرمان، ومدني، وكسلا، وبورتسودان، وعطبرة، وغيرها من المدن الكبيرة الذي عاصرت تنقلات الخدمة المدنية، والتهجير، وكذا الانتقال الحر من مدينة في أقصى الشمال إلى غربه ووسطه وجنوبه وهكذا. عزمي انجبته هذه التحولات التي ارخت سدولها متصاعدة منذ الخمسينات.
مع هذه الكوكبة المتعلمة التي ثورت النص الغنائي واللحني والادائي خطت سطورا جديدة لملحمة التجديد الإبداعي.
فمن أقاصي حلفا دغيم هاجرت أسرته لتنجب طفلا في بورتسودان. وهناك شهد فترة ما بعد الميلاد. يجوب مع الأسرة مدن الشرق التي درس فيها حتى أكمل الثانوية. وكان منذ صغره يهوى كتابة الشعر مع صديق دارسته عبد الوهاب هلاوي. آنذاك يجلل قصيده بشكواه، وأنينه، فيسهد ليل العاشقين، والحيارى في دروب الحب. ومع ذلك كان يواسيهم على جودي من الصبر برغم جمرة الولع، ويقظة الرقيب، وفداحة الوفاء.
بكلمات بسيطة يأخذها من أفواه الناس في حديثهم الدارج ينظم عزمي شعرا عاطفيا جميلا. فلا تمر فترة إلا ونقل حروفه أثير الإذاعة فيسعد المستمع بحروف الغناء. فكلمات عزمي تأتي منسوجة بسهولة للتلحين، مواضيعها نارى الجوى، وألم الفراق، وناقماً محذراً إياها من أهلها.
ولاحق شاعرنا أحلامه في التحصيل العلمي. فظفر بالدخول إلى جامعة القاهرة “فرع الخرطوم” التي درس فيها الفلسفة، ولا بد أنه أخذ منها بطرف في تجاويف قصيده:
قسمة غايتو أعيش بدونها لا بإيدي ولا بإيدها
وعلى هذا النهج جاءت نصوصه معبرة عن طرح جديد، وغني بالفصاحة العامية، والعميقة في مدلولاتها الفلسفية الغنائية في جوانبها المتصلة بالهجران العاطفي، والعشق العذري، ومواويل الشكوى من جور الحبيب، ومرات تردده، وأحيانًا حنوه المتناهي.
-٢-
تعاون عزمي مع عدد هائل من المغنين عبر كل الأجيال. فحضر زمان سطوة العطبراوي ومنحه “بلادي الحلوة”. ثم منح هاشم ميرغني “انتي ما مشتاقة لي” و”حان الزفاف” و”عشان أهلك بخليكي” و”فراق ليلتين” و”عندي كم في الدنيا” و”مات الهنا”، وأعمالًا أخرى. ورغم أن ثنائيته المديدة مع هاشم ميرغني قد ميزته إلا أنه لم يني في التعاون مع فنانين آخرين. فمع مجذوب أونسة كانت “ما سلامك” التي لحنها عبد اللطيف خضر.
كما كتب للهادي الجبل أجمل أغنياته: ما أتعودت
أخاف من قبلك”. ومنح حمد الريح “في انتظار عينيك” و”الظروف يا حلوة دائماً” التي لحنها له العاقب محمد حسن، وغناها هو الآخر. وكذلك لحن له العاقب عملا لنفسه آخر باسم وديعة.
“سمحة الصدف البيك جمعتنا” كانت من نصيب الفنان عبد العزيز المبارك. وحظ خوجلي عثمان خروجه منه بأغنيتي”يعني كيفن ما بريدك” و”قبل ما نعرف قليبك”.
و”داير أقول ليك” غناها محمد سلام. أما محمود علي الحاج فغنى لي “صحي مسافرة”، وأبو عبيدة حسن غنى لي “إنت تبري من الألم”. وغنى له سيف الجامعة “في بعادك” و”ده الخلاني احب اكتر” والتي غناها معتز صباحي
وغنى له عبد الهادي الهادي عثمان “عند الله ما هو بعيد” ومحمود عبد العزيز “طروني عليك” وعبد الوهاب الصادق “زي حنانك”. وكذا كانت “سفر العيون” من نصيب يوسف الموصلي.
-٣-
حين ولجنا باب الصحافة في منتصف الثمانينات وجدناه في أروقتها يسطر حروفاً ندية حين يكتب عن صديقته ليلي المغربي، وحمد الريح، عبر صفحته الفنية في جريدة الملاعب التي كان صاحب امتيازها أسطورة الإعلامي، ورائد الأدب الرياضي أحمد محمد الحسن. في عمارة ابو العلا القديمة ألفتنا نلتقي كلما حان موعد تسليم صفحته الأسبوعية (فنون الملاعب). يأتي أنيقًا معطرًا، وبوسامته الفائقة، وروحه الدعابية. وكلما رأيته ذهبت إليه لأتعلم منه شيئا عن إعداد صفحته الفنية المميزة. فتجده هناك منهمكا في صحافته، وأمامه صور لفنانين يشذب بها صفحته، وأحيانا تجد عنده فنانا يأتى ليحاوره، أو صديقا مع الشعراء هف لمقابلته. وما أحلى أنس عزمي، وذخيرته في معرفة الفنانين وكل الذين يرتبطون بهم.
كانت الصحافة تمثل له مجالا آخر للتنافس مع أقرانه الشعراء الإعلاميين. فهناك صفحات محمد يوسف موسى، والتيجاني حاج موسى، وكتابات عبد الوهاب هلاوي، ومختار دفع الله، والنعمان على الله. ولكن صحافة النجيب نور الدين تفوق تلك الصفحات بثراء التحرير، إذ عجمت “الأيام” عوده. أما صحافة محجوب عبد الحفيظ فكانت تبزهم في الإثارة، حيث لا تخلو عن الهجوم المتواصل على وردي، وحنان بلوبلو عبر صحيفة الكورة لصاحب امتيازها عدلان يوسف عدلان. وهؤلاء الشعراء – الصحافيين – الإذاعيين كانوا يتنافسون مرة ثالثة في تقديم البرامج الإذاعية. وعزمي كان مميزا في لغته الإذاعية التي يعدها، ويقدمها، لبرامج حلو الكلام.
داخل الخدمة المدنية تجول عزمي، إذ عمل في الخطوط الجوية السودانية موظفاً، ثم تعاون مع العمل الصحفي غير المنتظم، والذي احترفه في الخارج حين غادر للامارات عند نهايات السبعينات. وهناك عمق الارتباط بالمهنة وانضم إلى كبريات الصحف الخليجية حتى ان عاد للبلاد زين بقلمه الصفحات الأدبية، والفنية بمواضيع شيقة. فيها وظف معارفه السابقة كمعلم لفترة من الزمن، ودراساته الجامعية ليغوص في أبعادها، ويمسك بتلابيبها حتى يسعد القراء.
في غربته في الولايات المتحدة أشجانا عزمي بأنسه، ومساهماته في عدد من المناسبات الاجتماعية، والثقافية، والفنية. وقد عز علي فراقه، إذ كنت التقيه أحيانا فنعيد سيرة الوسط الفني. وتمتد مكالماتنا التلفونية لساعات لنتذكر تلك الأيام الجميلة التي جمعتنا في عمارة أبو العلا القديمة. وآنذاك كان في عنفوان نشاطه، يزرع العاصمة المثلثة بالشعر، والانس، والمساهمة الإعلامية في الصحف، والاذاعة، والتلفزيون، والمنتديات الثقافية.
بوفاته فقدنا إنسانًا راقيا، وشاعراً جميلاً، ومثقفاً محباً لوطنه.