تقارير

ليبيا بين الوحدة والانقسام: خارطة طريق أممية وسط تحديات سياسية وأمنية متفاقمة

تقرير - رشا رمزي

تبرز الآن لحاجة الملحة لإيجاد حلول جذرية تخرج ليبيا من دوامة الانقسام التي تعيشها منذ سنوات. وسط هذا المشهد المعقد، تحاول الأمم المتحدة رسم خارطة طريق جديدة تهدف إلى توحيد المؤسسات الليبية وتمهيد الطريق نحو انتخابات شاملة، بينما تواجه تحديات جمة على الأرض تهدد بتفجير الأوضاع في أي لحظة.

 

الرؤية الأممية: الوحدة قبل الانتخابات

خلال لقاء افتراضي مع ناشطين ليبيين، كشفت المبعوثة الأممية هانا تيتيه عن رؤية واضحة تضع تشكيل حكومة موحدة في المقدمة كشرط أساسي لأي عملية انتخابية مستقبلية. وأوضحت تيتيه أن “الوضع القائم في ليبيا يؤدي لظهور هيئات إدارية مختلفة”، مشددة على استحالة إجراء انتخابات نزيهة في ظل وجود أجسام مختلفة وانقسام كبير.

هذه الرؤية الأممية تعكس فهماً عميقاً لطبيعة التحديات الليبية، حيث تعتبر المبعوثة أن إيجاد “حكومة موحدة” هو الخطوة الأهم لتنفيذ أي خارطة طريق مستقبلية. وتتجاوز هذه الحكومة كونها مجرد هيكل إداري، بل تمثل شريكاً قوياً للمجتمع الدولي في معالجة التحديات الاقتصادية والأمنية الملحة التي تمر بها البلاد.

 

نهج تشاوري لا مفروض

في محاولة للتعلم من أخطاء الماضي، دافعت هانا تيتيه عن النهج الذي اتبعته اللجنة الاستشارية بتقديم عدة خيارات بدلاً عن مسار واحد، قائلة: “كنا نستطيع أن نخرج بخيار واحد لكن لم نرد أن تفرض لجنة مكونة من 20 شخصاً خارطة طريق على الليبيين”. هذا النهج يعكس رغبة أممية في تجنب فرض حلول من الخارج، ومنح الليبيين دوراً أكبر في تقرير مستقبلهم.

وأضافت المبعوثة الأممية أن الهدف كان استعراض التحديات وتقديم توصيات وخيارات متنوعة لمعالجتها، مما يمنح الأطراف الليبية مساحة أوسع للمناورة والتفاوض. إلا أن السؤال المطروح يبقى حول قدرة هذه الأطراف على التوافق حول أي من هذه الخيارات في ظل التجاذبات السياسية الحادة.

 

الانتخابات البلدية: اختبار للجاهزية

تركز البعثة الأممية على الانتخابات البلدية كنوع من الاختبار للجاهزية الليبية لإجراء استحقاقات انتخابية أوسع. وأكدت المبعوثة أهمية هذه الانتخابات، التي تراقبها البعثة وتدعم المفوضية العليا للانتخابات في إجرائها، معتبرةً أنها “ستعطي انطباعاً حول إمكانية إجراء الانتخابات في ليبيا”، كما أنها توضح قدرة الحكومة الحالية على دعم الاستحقاقات الانتخابية.

رغم ذلك، لفتت تيتيه إلى وجود تحديات في إجراء الانتخابات البلدية، مؤكدةً دعم البعثة لإنجاحها، وتعجيل إجرائها إذا تعذر انطلاقها في موعدها. هذه التحديات تعكس الصعوبات الأوسع التي تواجه أي عملية انتخابية في ليبيا، من قضايا أمنية ولوجستية إلى خلافات سياسية حول القوانين الانتخابية.

 

التحديات الأمنية: طرابلس على صفيح ساخن

على الصعيد الأمني، أشارت المبعوثة الأممية إلى أن البعثة “تعرف جيداً الوضع الأمني في طرابلس” وقد تابعت التوترات الأخيرة وأسهمت في إنشاء لجنتي الهدنة والترتيبات الأمنية، مؤكدةً: “نعمل بجدية حتى نمنع أي قتال في طرابلس”. هذا التركيز على العاصمة يعكس حساسية الوضع الأمني فيها وتأثيره على العملية السياسية برمتها.

 

في هذا السياق، يأتي موقف لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب كمحاولة لتسليط الضوء على ضرورة حل التشكيلات المسلحة. نفى عضو اللجنة علي الصول أن يكون البيان الأخير الصادر عن اللجنة يحمل أي رسالة تتعلق بتدخل الجيش في العاصمة طرابلس، موضحاً أن البيان يُعد رسالة واضحة موجهة إلى البعثة الأممية والأطراف الليبية الداخلية، بضرورة الالتزام بحل التشكيلات المسلحة ودمجها في الجيش النظامي، ونزع سلاحها بشكل كامل.

 

الهدف: حكومة جديدة وانتخابات

أضاف الصول أن تنفيذ هذه الخطوات قد يمهّد الطريق نحو تشكيل حكومة جديدة، والدفع باتجاه إجراء الانتخابات، بما يساهم في إنهاء المرحلة الانتقالية وإرساء الاستقرار في البلاد. هذا التصور يتماشى مع الرؤية الأممية، لكنه يطرح تساؤلات حول الآليات العملية لتحقيق هذا الهدف في ظل تعقيدات الواقع الليبي.

 

خلافات داخل المؤسسات الرسمية

تتضح التجاذبات السياسية من خلال التحليلات التي تشير إلى وجود خلافات بين المؤسسات الرسمية نفسها. عبّر الباحث السياسي أحمد أبو عرقوب عن استغرابه من غياب رد فعل حاسم من المجلس الرئاسي عقب مقتل رئيس جهاز دعم الاستقرار غنيوة الككلي، مشيراً إلى أنه كان يتوقع صدور قرار بحل الجهاز أو على الأقل المطالبة بمحاكمة شخصيات يُشتبه في تورطها بانتهاكات حقوق الإنسان.

 

وأضاف أبو عرقوب أن المجلس الرئاسي، أو على الأقل رئيسه محمد المنفي، يُعطي انطباعاً بأنه غير متوافق مع سياسات حكومة الدبيبة، وأن هناك فجوة واضحة بين الطرفين. هذا التحليل يكشف عن تعقيدات إضافية في المشهد السياسي، حيث حتى المؤسسات التي من المفترض أن تعمل معاً في إطار واحد تعاني من خلافات داخلية.

 

تحديات الواقع على الأرض

تتجسد التحديات بشكل واضح في تصريحات تحذيرية من وضع العاصمة، حيث شدد أحد المراقبين على أن الوضع في طرابلس خاصة والمنطقة الغربية عموماً لا يمكن أن يستمر بهذه الطريقة، مؤكداً أنه مرشح للانفجار في أي لحظة. وأضاف: “هناك تشكيلات مسلحة تتصرف وكأنها خارج الدولة وفي نفس الوقت الحكومة لا تقدم تطمينات كافية للناس أن ما يحدث ليس استبدال تشكيل مسلح بآخر من خارج المدينة”.

هذا التوصيف يعكس حالة من عدم الثقة بين المواطنين والمؤسسات الرسمية، ويشير إلى أن المشكلة لا تقتصر على الخلافات السياسية، بل تمتد إلى فقدان الثقة في قدرة هذه المؤسسات على ضمان الأمن والاستقرار.

 

طريق طويل نحو الاستقرار

نبهت المبعوثة الأممية إلى أن الهدف النهائي لأي عملية سياسية في ليبيا يجب أن يكون “إنهاء المراحل الانتقالية”، وأن تكون هذه العملية شاملة لكل مكونات المجتمع، بما في ذلك النساء والشباب وذوي الإعاقة. وأشارت تيتيه إلى أنها ستقوم بعرض نتائج هذه النقاشات على مجلس الأمن، مؤكدة أن “الجهد الأصعب سيكون فيما يتعلق بتنفيذها”.

هذا التصريح يلخص حقيقة مهمة، وهي أن وضع الخطط والرؤى أمر، وتنفيذها على أرض الواقع أمر آخر مختلف تماماً. ليبيا تحتاج إلى مشروع سياسي حقيقي بعيداً عن التجاذبات الحزبية والمصالح الضيقة، مشروع يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار ويعمل على توحيد الجهود لإخراج البلاد من أزمتها المستمرة.

الطريق نحو الاستقرار في ليبيا ما زال طويلاً ومليئاً بالتحديات، لكن الإرادة الدولية والمحلية للوصول إلى حل توافقي قد تكون المفتاح لتجاوز هذه المرحلة الصعبة، شريطة أن تتحول الأقوال إلى أفعال والخطط إلى تنفيذ فعلي على الأرض.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى