مقالات

إهانة في العلن .. حين باع كامل إدريس هيبة الدولة بهتافه لأفورقي

صديق الدخري

في لحظةٍ بدت كأنها مشهدٌ من مسرح العبث، وقف رئيس وزراء السودان كامل إدريس، في زيارةٍ رسميةٍ لدولة إريتريا، يهتف بأعلى صوته: “عاش أسياس أفورقي!

لا، لم يكن الحشد جماهيريًا ولا الموقف وطنيًا مشتركًا. 

كان الأمر ببساطة هتافًا مهينًا خرج من فم من يُفترض أنه يمثل سيادة السودان، لا خضوعه. لحظةٌ اختُزِلت فيها الدولة كلها في مجاملة رخيصة، وسقط فيها البروتوكول سقوطًا مدويًا أمام كاميرات العالم.

ما حدث لا يمكن وصفه إلا بأنه سلوك يجرّد المنصب من كرامته، ويحوّل رئيس الوزراء إلى مؤدٍّ رديء في مسرح الزعماء الذين لا يرون في الآخرين إلا تابعيهم. 

لم يكن مجرد خطأ بروتوكولي عابر، بل صفعة في وجه الدولة، وإشارة خطيرة على مستوى الفهم السياسي لدى حكومةٍ ما زالت تتلمس طريقها نحو الشرعية والاحترام.

خرق فاضح للبروتوكول والكرامة الوطنية

البروتوكول ليس شكليات كما يتوهم البعض؛ إنه حارس الهيبة، ولغة الدولة في التعبير عن نفسها. وعندما يهتف رئيس وزراء باسم رئيس دولة أخرى، فإنه يخلط بين الولاء السياسي والمجاملة الدبلوماسية، وبين التحية والتهليل.

يقول دبلوماسي سابق في وزارة الخارجية السودانية فضّل حجب اسمه . إن ما فعله إدريس لا يندرج تحت أي بند في أعراف الزيارات الرسمية، مضيفًا أن التحية الرسمية تكون عبر عبارات الصداقة والتقدير، لا عبر هتافات الزعامة.

الهتاف في تلك اللحظة لم يكن تحية، بل إعلان ولاء، وانسلاخ كامل عن ما يُفترض أن يمثله الرجل من وقار الدولة واستقلال قرارها.

بدأ كأنه موظف صغير يبحث عن رضا الحاكم المضيف، لا مسؤولٌ يقف نِدًّا لندٍّ باسم وطنٍ كاملٍ له تاريخه ومكانته.

من يمثل كامل إدريس؟

سؤال يفرض نفسه: من الذي كان يهتف؟ كامل إدريس الإنسان، أم كامل إدريس رئيس الوزراء؟

إن كان الأول، فتلك طامة، لأنه فقد الإحساس بالحدود بين الشخصي والعام.

وإن كان الثاني، فهي كارثة وطنية، لأنه تحدث باسم الشعب السوداني دون تفويض، وحمل بلاده على كفّ المجاملة.

لقد حوّل إدريس المنصب العام إلى أداةٍ لإرضاء الغير، بينما الأصل أن يرمز المنصب إلى العزة والسيادة.

تقول مصادر قريبة من دوائر البروتوكول إن “الزيارة تم التحضير لها على عجل دون تنسيق كافٍ مع وزارة الخارجية”، وإن “تصرف إدريس فاجأ حتى الوفد المرافق”.

هذا يعني أن ما جرى لم يكن جزءًا من خطة أو خط سير رسمي، بل اندفاع شخصي من رئيس حكومةٍ يظن أن السياسة تُدار بالعواطف لا بالمواقف.

رسالة خاطئة في توقيتٍ حرج

إن القرن الإفريقي يعيش على صفيحٍ ساخن من التوازنات والتحالفات. كانت الزيارة فرصة لإظهار أن السودان دولة مستقلة، تبحث عن مصالحها بعقلٍ هادئٍ وحضورٍ واثق. 

لكن إدريس اختار أن يُرسل رسالة معاكسة تمامًا: السودان تابعٌ، لا شريك.

هذا الهتاف وحده كفيل بتقويض أي مكسب سياسي أو دبلوماسي كان يمكن أن تحققه الزيارة. لقد بدا السودان كما لو أنه يستجدي القبول الإريتري، لا أنه جاء بندّيةٍ لبحث المصالح المشتركة.

محللون رأوا في هذا التصرف تعبيرًا عن حالة انكسار رمزي لدى السلطة الجديدة، وأنه إعلان غير مباشر بأن الحكومة تبحث عن شرعية خارجية بدلًا من أن تستمدها من الداخل”.

صفعة على وجه الدولة

المؤلم أن ما فعله كامل إدريس لا يسيء له وحده، بل لكل السودانيين الذين حلموا بحكومة مدنية ترفع الرأس وتعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة. 

لقد صفَعَهم علنًا حين جعل من نفسه مطبِّلًا في لحظةٍ يفترض أن يكون فيها رمزًا للهيبة.

صفعة للبروتوكول. صفعة للدبلوماسية السودانية التي لطالما قدّمت للعالم رجالًا يعرفون وزن الكلمة ومقام الدولة. صفعة لوزارة الخارجية التي بدت صامتة وكأنها تشاهد مشهدًا غريبًا لا تملك حياله شيئًا.

أسئلة لا بد من إجابة

من سمح له بهذا التصرف؟ ولماذا لم يصدر حتى الآن توضيح رسمي أو اعتذار؟ وهل تدرك الحكومة الحالية حجم الضرر الذي لحق بصورة السودان؟

هذه الأسئلة يجب ألا تمر مرور الكرام، لأن ما حدث ليس زلة لسان، بل زلة دولة.

إنها الفضيحة

إن ما جرى لا يمكن تبريره بالدفء أو الحماس أو سوء الفهم. إنه يعكس عقليةً ترى في العلاقات الخارجية ساحة لتبادل الإطراءات لا المصالح.

لقد باع كامل إدريس هيبة الدولة في لحظةٍ، وهتف باسم غيره بينما كان عليه أن يهتف باسم وطنه.

ومهما حاولوا التبرير، سيبقى المشهد شاهدًا على زمنٍ سياسيٍ مائعٍ، تُهان فيه الكرامة الوطنية على المنصّات الرسمية، ويُصفّق المسؤولون لأنفسهم وهم يهدمون ما تبقّى من وقار الدولة.

لقد هتف لأسياس أفورقي، لكنه في الحقيقة هتف ضد السودان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى