مقالات

الحس السياسي الارتري العام وتزييف الوعي

فتحي عثمان (*)

تتسم أسئلة الأطفال والفلاسفة بالتشابه من حيث المنطلق: إذ تنطلق أسئلة الأطفال من الحس العام (كومون سينس)، حيث يسأل الأطفال عن أين يذهب الناس حين يموتون؟ وما هي الحياة؟ وكيف نعرف أننا نعرف؟ فبينما ينصرف الأطفال عن ملاحقة الأسئلة بملاحقة الفراشات، ينهمك الفلاسفة في محاولة الإجابة عليها عبر تكوين الأنساقً المعرفية (ثوت سيستمز).

يجنح إلى تأكيد وجه الشبه هذا الفيلسوف تيموثي وليامسن في كتابيه “مقدمة في المنهج الفلسفي” و”فلسفة الفلسفة”. ويشير إلى أن الحس العام هو معرفة اجتماعية تنشأ في سياق زماني ومكاني محدد لمجتمع معين. تماماً كالفكرة القديمة التي سادت لدى سكان البر الغربي لأوروبا بأنه لا أرض فيما وراء بحر الظلمات (المحيط الأطلسي)، حتى زمن الوصول إلى اليابسة في غرب الكرة الأرضية. أو الحس العام اللغوي المتمثل في انحصار الدلالة: فكلمة أحمر بالعربية تفيد اللون الأحمر، ولكنها قد لا تعطي نفس الدلالة في لغة أخرى. ويضع وليامس تمييزاً بين معرفة الحس العام والمعرفة التي يمكن التثبت منها أو التي يمكن أن نطلق عليها حكم المعرفة الصحيحة أو الخاطئة. فالقول بأن تناول الكربوهيدرات ضار بمريض السكر، هو افتراض يمكن التحقق منه بالتحليل والقياس والملاحظة والأدوات الأخرى.

دفعني إلى هذه التوطئة رغبة في مشاركة موضوع الحس السياسي العام الارتري وعلاقته بمسألة تزييف الوعي. فمن مسلمات الحس السياسي الارتري معرفة أن أول ظلم حاق بالشعب الارتري، بعد الاستعمار، كان هو حرمانه من حقه في تقرير مصيره أسوة بمستعمرات إيطاليا الأخرى. وثان المظالم تمثل في الغاء الاتحاد الفيدرالي ومحاولة ضم ارتريا والإرهاب الذي تزامن مع تلك المحاولات وتجاهل الأمم المتحدة لهذه المظلمة خاصة وأنها المصمم والضامن لهذا الاتحاد الفيدرالي. ثم اندلاع التظاهرات الطلابية والعمالية التي مهدت لاندلاع الثورة الارترية والكفاح المسلح والذي توج في الرابع والعشرين من مايو من مطلع القرن الحالي بالاستقلال الذي حلم به الشعب الارتري. هذه من مسلمات الحس السياسي الارتري والتي ترسخت في سياق اجتماعي وتاريخي محدد، وأصبحت معارفاً يمكن الاستدلال على صحتها وخطأها بالبحث التاريخي والدراسة.

لكن وضمن التفاعل السياسي الارتري تنشأ أفكار تصارع من أجل فرض نفسها كمسلمات في الحس السياسي العام. من هذه الأفكار الافتراض القائل بأن الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا كانت تجربة قياسية ومعيارية في الأداء من حيث المشروع الوطني ومتابعة تحويله من فكرة إلى واقع والانجاز النهائي للاستقلال، وأن هذه الجبهة انحرفت أو “اختطفت” في لحظة تاريخية محددة (يؤرخ لها بشهر سبتمبر من عام 2001)، والسؤال الذي يقفز قفزاً إلى الواجهة هل هذا الافتراض يمثل معرفة حس عام سياسي؟

يندرج هذا الافتراض في المعرفة القابلة لحكم الصحة والخطأ، أكثر من كونه مسلمة تؤخذ على عواهنها. يقوم هذا الافتراض على أن “التحول” نحو الطغيان كان “طارئاً” وليس له جذور راسخة في التجربة منذ نشأتها؛ والعكس هو الصحيح تماماً. فتجربة الجبهة الشعبية شديدة التنميط، والمركزة القاتلة، والعسكرة الصارمة وعدم نشوء نخبة سياسية والتحكم الأمني الشامل كلها أسست مجتمعة لمولد الطغيان داخل التنظيم والذي نقله كفيروس قاتل إلى رئتي الوطن.

ويتشابه هذا المسعى مع تعميم شعار احتفالات أعياد الاستقلال لهذا العام وهو شعار “خطنا درعنا” وأنا استخدم الأصل بالتقرينية لأن الشعار مترجم إلى العربية والانجليزية، ودلالات الترجمة الإنجليزية تختلف عن الأصل بالتقرينية. وقبل الدخول في تفاصيل الشعار المكون من كلمتين نشير إلى ضمير الملكية (نا) في الكلمتين والذين يشير إلى الملكية الجماعية للخط والذي هو درع (لنا). فهل المقصود هو الخط التنظيمي؟ إذن أين هو التنظيم صاحب الخط؟ خاصة وأن كلمة خط تشير في الأدب السياسي إلى “النهج” الحزبي بشكل أدق ولا يعرف للشعوب خطوط (إلا تلك الخطوط الحمراء التي تصرخ بها حكوماتنا وهي تداس ليلا ونهاراً) وهل هذا الخط “ملكية ارترية شعبية عامة ومتي “أجمع” الشعب الارتري عليه؟ كلمة درعنا في الشعار الأصلي تأتي ناقصة من صفة مكملة لها لأن المقصود هو درعنا “الحامي”

ولكن السؤال الذي تشير إليه الكلمة المسكوت عنها هو: يحمي من من؟ بالطبع يمكن لمن صاغ هذا الشعار في لجان الاحتفالات التابعة للجبهة الشعبية أن ينافح عن الشعار باستجلاب كل مفردات السيادة الوطنية، والدفاع عن الوطن والأرض والعرض، ولكن كل ذلك لا يمنع الأسئلة من التوالد.

والدرع أداة حماية يحملها الفارس، ليقي نفسه بها من سهام الأعداء، إذن نحن مرة أخرى أمام الأعداء المتربصين بنا، ونظرية المؤامرة والتي تم صياغتها هذا العام في جرعة شعار سامة. وبما أن الدرع يحركه الفارس كيف يشاء وسبق استخدامه ضد الأعداء في تيغراي، فهل سيتم ضم تيغراي تحت جناحه هذه المرة ضد عدو جديد؟

 لا يمثل هذا الشعار والشعارات السابقة له إلا محاولة لتكثيف الوعي الزائف عبر افتراض الإجماع الوهمي على خط وطني والخلط بين الخط وبين الوطن والدفاع عنه ومنازعات السلطة الحاكمة، وإن هذا الإجماع وليس الخط وحده هو الحامي للشعب ضد الأعداء.

لست أدرى ما إذا كان مصمم هذا الشعار سمع بمقولة غرامشي بأن الحس العام “هو فلسفة الجماهير، لكنه خليط غير متماسك من حقائق، وأساطير وتقاليد وأوهام” 

ولكن من المؤكد أن مصمم هذا الشعار الزائف لم يسمع أبداً بما بمقولة فرانز فانون الخالدة: “أن النظام يحتكر أدوات الوعي، ويحول وعي الجماهير إلى وعي زائف مفرغ من الفعل، محكوم بالانتظار”.

وللوطن، حتماُ، صباح جديد.

 

(*) كاتب وصحفي ودبلوماسي اريرتري

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى