مقالات

حالة “اللامعيارية” (2)

الجميل الفاضل

فاللامعيارية هي الحالة التي تقل فيها قدرة المجتمع على ضبط البوصلة الأخلاقية لأفراده. 

حيث وضع هذا المصطلح لأول مرة عالم الاجتماع إميل دوركايم، الذي وصف فيه حالة تضاؤل التزام الناس بالمعايير إلى حدّ يتعطّل معه عملها، فتفضي بالمجتمع إلى الفوضى، والي الصراع التناحري، والي ارتفاع معدلات الجريمة والانحراف والانتحار، وقد تؤدّي إلى التفسّخ والانحلال.

بل قد تقود هذه الحالة في طور منها الي إنقلاب في معايير المجتمع من النقيض الي النقيض، كما هو الحال في السودان، الذي كانت تنظر مجتمعاته قبل حقبة “الإنقاذ”، بنظرة الريبة الي أية مظاهر ثراء تطرأ علي أي فرد من المجتمع بصورة مفاجئة أو غير مفهومة، ثم تراجع سؤال المجتمع عن مصادر كسب افراده، إلي أن أصبح الكسب وحجمه بغض النظر عن التدقيق في مصادره، معيارا للنجاح الشخصي عند قطاع واسع من الناس.

ولذا فإن المعايير البديلة التي تنشأ تبعا لبروز نماذج مصنوعة بعناية لكي تصبح قدوة، تناسب سياسات الدولة الرامية لبناء نمط اقتصادي اجتماعي جديد يتناقض جذريا مع القيم التقليدية للمجتمع، يقوم علي نظريات “التمكين” الفردي والجماعي، وراء سياج فقهي يحمي المنظومات الفاسدة، بذرائع شتي من بينها صناعة نموذج “المؤمن القوي” سلطة وثروة وجاه، تحت غطاء فقه السترة، وفقه التحلل إن دعي الداعي.

ويقول في هذا الصدد الباحث الدكتور النور حمد: “أن صلف الإسلاميين وغرورهم الديني الزائف قد صرفهم، عن أن يفحصوا أنفسهم فحصًا دقيقًا، ليقفوا على قصور معرفتهم، وضعف روحانيتهم، وعلى عموم معايبهم، التي تجل عن الحصر.

فهذا النوع من الصلف والغرور المُصمت، المتدثر بثوب الدين، نقيضٌ للحكمة. فصاحبه لا يملك إلا أن يكون أرعنًا ومستبدًا، بل وعنيفًا، يستسهل، في لا مبالاةٍ مذهلةٍ، إهلاك الحرث والنسل والدم والأرواح، في سبيل تحقيق أوهامٍ مدخولة. 

فقد كان الإسلاميون السودانيون يظنون أنهم الأتقى، والأنقى، وأنهم المصطفين الأخيار، الأكثر استعصاءً على إغراءات الدنيا، والأكثر تجرُّدًا لنصرة الحق، وللعمل المخلص للصالح العام. 

لكن، ما أن وصلوا السلطة، حتى انفجرت أمام أعينهم، براكين معايبهم، وطالعهم ضعفهم البشري، ورأوا، رأي العين، عدم اشتغالهم بجدٍّ في إصلاح أنفسهم. 

لقد رأوا كيف انخرطوا، بكل قوة، في الولوغ في المال العام، وفي أكل أموال الناس بالباطل، وفي استثناء أنفسهم من حكم القانون، ومن سائر الضوابط المؤسسية للعمل العام، حتى أصبحت مؤسسية العمل العام، مجرد ركامٍ من طوبٍ منقوض، مبعثر.

وتقول نتائج دراسة كندية أجريت في العام (2010)، استهدفت (30) دولة حول العالم: “أن التغيير الاجتماعي والسياسي السريع على المستوى الكلي للمجتمع، كالانتقال السياسي من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي يرفع من معدل (اللامعيارية)، بين الأفراد في المجتمع، كذلك وجدت الدراسة أن اللامعيارية كانت مرتفعة عند صغار السن وغير المتزوجين وغير الموظفين، وأنه كلما زادت مدخرات العائلة وثقة الأفراد في السلطة: (الشرطة، والنظام القانوني، والحكومة)، انخفضت درجة اللامعيارية لديهم”.

علي أية حال، فمظاهر “اللامعيارية” تتجلي في ثلاثة مستويات: 

هي مستوي اللا قانون، ومستوي اللا نظام، ومستوي اللا قاعدة، فإنعدام المعايير يرتبط مباشرة بالنظم المعيارية.

إذ أن أي خلل قد يصيب هذه المنظومة المشكلة للمعايير التي تنظم وتسير المجتمع، يؤدي هو مباشرة إلى إختلال البناء الاجتماعي ككل، ومن ثم ظهور حالة “أنوميا” أو ما يسمى باللامعيارية. 

وقد تقود تلك الحالة لتطور تدريجي تراكمي لمفاهيم جديدة ذات مضامين صراعية أو ثأرية، تفضي في النهاية إلى الانحراف والتمرد على القانون، من خلال انعكاساتها الثلاثة: أولا على مستوى الفرد فتحدث له اغتراب، ثم الأسرة فتحدث فيها تفككا، واخيرا المجتمع فتصبه باختلال في سلم القيم والمعايير.

بما يؤكد كل ذلك في النهاية أن ما تجلي لنا في هذه الحرب من سلوكيات وممارسات وانتهاكات وقتل خارج القانون، لم ينشأ هو أيضا عن فراغ.

-ونواصل-

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى