مقالات

التكايا وغرف الطوارئ

فيصل محمد صالح 

وأنا أكتب بالأمس عن الراحل الدكتور عبد الرحيم بلال وتأثيره على المجتمع المدني السوداني، دارت برأسي عدة أفكار حول المجتمع المدني وما يثار حوله من نقاشات، جذوره ونشأته واتجاهاته، ثم السؤال الأزلي حول علاقته بالسياسة وموقفه من الأحداث السياسية في البلاد، كيف يكون، وما هي حدوده.

لن أحاول الإجابة على هذه الاسئلة، وليست لي طاقة أو قدرة بالتأكيد على ذلك، هذه أسئلة تحتاج لنقاشات مطولة ومعمقة، ومساهمات جادة من أفراد ومنظمات. لكن سأشير لبعض التجارب والمواقف التي مررنا بها، ثم بعض الإشارات حول تجربة الحرب وتأثيرها على المجتمع المدني.

كنت عضوا بأول لجنة تنفيذية مؤسسة لكونفيدرالية منظمات المجتمع المدني، وهي تنظيم كبير جمع معظم المنظمات وكان تجربة ثرية وغنية بالتجارب والنقاشات، خاصة إذا عرفت أن الاجتماعات كانت تضم رئيس الكونفيدرالية الدكتور أمين مكي مدني، والاستاذ كمال الجزولي والدكتور الباقر العفيف والدكتور معاوية شداد والدكتورة عائشة الكارب وسوسن الشوية وعبد الرحمن المهدي ورباح الصادق وعمر عشاري، رحم الله من رحلوا منهم، وعذري لمن سقطت أسماءهم من الذاكرة.

عاصرنا في اللجنة هبة سبتمبر 2013، وما صاحبها من عنف مفرط ومجازر حقيقية لشباب صغار السن، واجتهدنا في الرصد والتوثيق وفضح الانتهاكات والتواصل مع المنظمات الاقليمية والدولية. خلال تلك الأيام ظهرت محاولات لتجميع الاحزاب والقوى السياسية والنقابات في تجمع جديد، وتم طرح المسألة في اجتماعات الكونفيدرالية، وانقسمنا لرأيين، قسم يرى أن تكون الكونفيدرالية جزءا من أي تجمع أو تحالف مثل هذا، وقسم آخر، يرفض انضمام الكونفيدرالية لتحالف سياسي مع الأحزاب.

كانت وجهة النظر المعارضة تقول أننا كمجتمع مدني نعمل على نفس القضايا التي تعمل عليها القوى السياسية والمدنية المعارضة، الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والعدالة الاجتماعية، لكن بوسائل أخرى تختلف عن الوسائل التي تعمل بها الأحزاب. ورأت هذه المجموعة أن من الافضل ألا تكون منظمات المجتمع المدني جزءا من تحالف سياسي حزبي، وإنما تعمل على قيام تحالف مدني عريض، تكون الكونفيدرالية هي مرتكزه. أما ألأفراد من المنضمين للمجتمع المدني ولديهم انتماء حزبي فهم أحرار بالتأكيد في ممارسة نشاطهم الحزبي من خلال تنظيماتهم السياسية.

كانت هذه الرؤية، التي تبنيتها مع آخرين، تبدو بسيطة ومقنعة، لكن بالتأكيد فإن القضية أكثر تعقيدا مما كنت أظن، ولن تحسم برأي سريع ومباشر، ولدى الطرف الآخر حجج قوية تستحق الاهتمام والنقاش.

هذه الاسئلة والتقاطعات لا تزال حية تسعى بيننا، ولا يستطيع طرف أن يدعي أنه قام بحسمها تماما، ولدينا فرصة لعرضها للنقاش من خلال التجارب الحية التي حدثت بعد الثورة، ثم تجارب الحرب وظهور غرف الطوارئ والتكايا التي تقدم تجربة إنسانية وسودانية فريدة.

تنفرد التجربة الجديدة بعدة مزايا، أولها الظرف الذي تعمل فيه، وهو ظرف معاد تماما لها ولدورها، لكنها رغم هذا استطاعت الصمود والبقاء وخدمة الناس. المظهر الثاني هو العمل الجماعي الناجح، فقد ظللنا نقول لفترة طويلة أن من عيوب الشخصية السودانية عدم قدرتها على الاستمرار في العمل الجماعي، وغالبا ما تظهر نجاحاتها في العمل الفردي. 

هذه المرة قامت التجربة بالاساس على العمل الجماعي وتكامل الادوار، ونجحت فيه بشكل كبير. النقطة الثالثة التي خطرت لي هي نجاح عمليات التمويل المحلي والذاتي في كثير من التكايا وغرف الطعام.

صحيح كانت جهود برنامج الغذاء العالمي صاحبة فضل في نجاح التجربة، لكن هناك مناطق كثيرة أيضا اعتمدت على الدعم المحلي من أهل القرى والاحياء والخيرين في المجتمع المحلي فاقانمت التكايا ومراكز الإيواء دون انتظار مساعدة خارجية.

أخيرا عبرت هذه التجربة حواجز السياسة التي عرقلت عمل لجان المقاومة وشقت صفوفها، واستطاعت الصمود، حتى الآن، في وجه بعض محاولات الاستغلال السياسي.

لهذا أزعم، وأسال الله ألا أكون مخطئا، أن تجربة التكايا وغرف الطعام يمكن أن تشكل فرصة جديدة لإعادة تاسيس المجتمع المدني على أسس وقيم جديدة تنهض على التجربة الصعبة التي خاضتها هذه التنظيمات القاعدية، وتتجاوز أخطاء وخلافات الماضي التي أقعدت بكثير من المحاولات السابقة، وعرضتها للخلافات والانشقاقات.

وبهذه المناسبة، قد لا يعلم البعض أن الهلال والمريخ كانا فريق واحد، ثم انشقا إلى فريقين، بما يعني أن البذرة قديمة….لكن البعض قد يراه انشقاق حميد، وكل ينظر له من زاويته..” بالله معقول كان نكون قاعدين مع الجماعة ديل في فريق واحد..”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى