
في إطار الرد الإيراني الذي أعلن عنه المرشد الأعلى الإيراني قبل قليل، أطلق الحرس الثوري الإيراني عملية “الوعد الصادق 3” عبر هجوم صاروخي كثيف غير مسبوق استهدف العمق الإسرائيلي، طالت فيه صواريخ باليستية مباشرة وزارة الدفاع الإسرائيلية في كرياه بتل أبيب، والمنشأة النووية في ديمونا ( رواية مشكوك فيها)، إضافة إلى مواقع حيوية في وسط المدن الإسرائيلية.
المشاهد القادمة من تل أبيب وثّقت لحظة اختراق الصواريخ الإيرانية لأنظمة الدفاع، وسط إنذار جوي شامل وارتباك لافت في مراكز القيادة الإسرائيلية، فيما أُصيب ما لا يقل عن 21 شخصًا، بعضهم في حالات حرجة. وبحسب وسائل إعلام إسرائيلية، فإنّ أكثر من 500 صاروخ تم إطلاقها، ما أدّى إلى دمار واسع النطاق في منطقة تل أبيب الكبرى، تضررت فيه عشرات المباني والمركبات، في ضربة لم تشهد إسرائيل مثيلًا لها منذ تأسيسها. وقد أعلنت طهران أنها أسرت قائدة طائرة إسرائيلية بعد إسقاطها، في عملية قد تشير إلى استخدام وسائل تشويش متقدمة أو كمين إلكتروني داخل الميدان.
الرد الإيراني، الذي كسر الخطوط الحمراء المعلنة، جاء في أعقاب التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق ضد منشآت ومراكز القيادة داخل إيران. وبينما أكد وزير الأمن الإسرائيلي أن “إيران تجاوزت كل الخطوط الحمراء”، صرّح وزير الخارجية الإيراني برفض بلاده لأي دعوات لضبط النفس، مما يعكس نقل المواجهة إلى منطق “الرد بالعمق مقابل العمق”.
ومن جهتها، أفادت قناة “أكسيوس” أن تل أبيب حصلت على “ضوء أخضر أميركي واضح” للرد العسكري، رغم اتصال ترامب بوليّ العهد السعودي بالعمل على خفض التصعيد بين البلدين.
وسط هذا التناقض، تبدو المنطقة وقد دخلت مرحلة “الاشتباك المفتوح مع قفازات نووية مخلخلة”، إذ لم تعد القواعد القديمة تصلح لضبط المسارات. الرد الإيراني أعاد هيكلة معادلة التوازن الردعي كميًا وليس نوعيًا، وأثبت أن طهران باتت مستعدة لتجاوز مرحلة الصبر الاستراتيجي نحو المجازفة الكبرى، مدفوعة بشعور وجودي بأن الحرب على أمنها الداخلي لم تعد تحتمل ردودًا رمزية، بل ضربات ذات أثر ميداني وسياسي مباشر.
ما تجدر ملاحظته هنا هو: أنّ التطورات الميدانية تشير إلى أن إيران بدأت فعليًا استعادة المبادرة الدفاعية بعد ساعات من الانكشاف الجوي شبه الكامل.
فخلال الساعات الأولى من الهجوم الإسرائيلي، في ظل الضربات المكثفة التي استهدفت مراكز القيادة والرادارات ومنصات الصواريخ كان الأنظمة تحت تشويش عجزت طهران عن ضبطها أو السيطرة أو حتى اعتراضها. ومع بدء انحسار الكثافة النيرانية الإسرائيلية، عادت المنظومات الإيرانية إلى النشاط التدريجي، في ما يبدو أنه إعادة تموضع دفاعي لإعادة بناء طبقات الاعتراض والسيطرة الجوية.
في المقابل، يبدو أن إسرائيل استنفدت الجزء الأكبر من طاقتها الهجومية في الموجة الأولى، التي استهدفت العمق الإيراني بكثافة نارية عالية خلال الساعات الخمس الأولى. ومع استعادة إيران توازنها العملياتي، تقلصت فاعلية التفوق الجوي الإسرائيلي، خاصة مع زوال عامل المباغتة وتحول طبيعة المواجهة إلى حالة حرب مستمرة ومعلنة.
المُلخّص أنّ أي محاولة إسرائيلية لتكرار الهجوم بالحجم ذاته ستواجه تحديات لوجستية وعملياتية متزايدة، ما يعني أن طهران باتت تمتلك فرصة لتفعيل دفاعاتها ورفع كلفة أي هجوم لاحق.
لقد دخل الطرفان الآن مرحلة “الردع بالنار المفتوحة”، حيث انتقلت إيران من مرحلة امتصاص الصدمة إلى بناء القدرة على إدارة اشتباك طويل النفس، وهو ما قد يُفضي إلى تصاعد تدريجي في حدة الصراع، لكنه يقلّص من هامش المفاجأة ويحسّن قدرة إيران على المناورة الدفاعية في المدى المتوسط.
ماذا بعد؟
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تصريح لافت إن “النظام الإيراني لا يدرك ما ينتظره”، في تحذير يُقرأ كتمهيد لمرحلة تصعيد مفتوحة. في المقابل، أفادت مصادر غير مؤكدة بأن إيران قد تُجري تجربة نووية وشيكة، وهو خيار بات – وفق تقديرات استراتيجية – ضرورة وجودية لطهران تشبه إلى حد كبير ما أقدمت عليه باكستان في وجه التهديدات الهندية عام 1998. وفي حال استمرت إسرائيل في شن ضرباتها، فإن إيران، وفق ما نقله مصدر عسكري لوكالة “فارس”، بصدد توسيع نطاق الرد إلى الأهداف الاقتصادية الحساسة، من منشآت نفطية إلى موانئ ومصانع، بما ينقل المعركة من الردع العسكري إلى الضغط البنيوي على الاقتصاد الإسرائيلي.
من جهة أخرى، تؤكد التصريحات الغربية المتتالية – من واشنطن إلى باريس ولندن وبرلين – وجود استعداد سياسي وعسكري لدعم إسرائيل، ما ينذر بانزلاق إقليمي واسع النطاق، خاصة إذا ما تحوّل الرد والرد المقابل إلى سلسلة اشتباكات مباشرة تشمل البنى التحتية والمدن الكبرى.
وتُظهر تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، التي اتهم فيها إيران باستهداف مناطق مدنية، ملامح حملة مرتقبة تستهدف عمق الاقتصاد الإيراني، في طليعته المنشآت النفطية والأصول الاستراتيجية.
باختصار، الشرق الأوسط على حافة اشتعال لا يُبقي ولا يذر، ويبدو أن خيارين فقط قد يحولان دون انزلاقه إلى حرب إقليمية وربما ما هو أوسع: إما ضبط جماح إسرائيل من قبل الغرب، أو إقدام إيران على إعلان امتلاك الردع النووي. فكل المؤشرات تُنبئ بأن الساعات القادمة قد تحمل مفاجآت كبرى، من شأنها أن تعيد رسم خريطة التوازن الإقليمي بالكامل.