
كيف تتكون ذائقتنا الفنية والأدبية…؟ هذا سؤال محير، ويصير أكثر حيرة حين نرى التنوع الكبير واختلاف الأذواق داخل الأسرة الواحدة والجيل الواحد…وبين الأصدقاء. مؤكد أن هناك عوامل كثيرة تتحكم في تكوين وتطوير الذائقة من بينها البيئة والوراثة، لكنها ليست العوامل الوحيدة، هناك أسباب وجاذبيات اخرى، وربما لم يتم اكتشاف بعضها حتى الآن.
كانت لدي علاقة غريبة مع صوت محمود عبد العزيز، وكنت استمعت إليه في بداياته
. أحببت اغنياته الخاصة ( بعد الفراق، هو اللي اختار دنيتو، عمري، يا عمر …الخ) ولم أكن احب سماعه وهو يؤدي اغنيات الغير، كانت هذه الفكرة تثير غضب أصدقائي وزملائي الأصغر سنا، ويعدون ما أقوله نوع من الكفر.
والحقيقة إنني كنت أجد لهم العذر، فهم سمعوا هذه الاغنيات لأول مرة من محمود، بينما سمعتها انا وأبناء جيلي من المغنيين الأصليين وتعودنا عليها، بادي، محمد أحمد عوض، ترباس، محمد ميرغني، سيد خليفة…إلخ، ولم نعد قادرين على الاستماع لها من مغنين آخرين.
نشأت في جو ميال لليسار، اخي الأكبر وأصدقاؤه وبعض اقاربي الأكبر سنا، ومنذ صغري استمعت لمحمد وردي ومحمد الأمين وابو عركي، واعتبرت أن لا غناء يستحق عناء الاستماع غير اغانيهم. ودلفت لقراءة الأدب فتوقعت عند درويش وأمل دنقل ونجيب سرور، ومحمد المكي ومحجوب شريف وكانت اشعارهم تملا الساحة ومدرسة الواقعية الاشتراكية تتسيد الساحة.
لم تسمح لي صغر سني بإزالة غبار الآيدلوجيا، حتى هزمني مصطفى سند.
جاء إلى ذاكرتي من خارج دوائر اليسار، أو هكذا كنت اصنفه، أصابني دوار واعترتني هزة النشوة وانا اتصفح البحر القديم للمرة الأولى. من أين جاء هذا الساحر العجيب، كيف اجتذبتني هذه الصوفية، المستترة والظاهرة في آن، في شعره….
“عبرت ملامحك النضيرة خاطري، فهتفت ليتك لا تزال، للريح خمرك للمساء وللظلال
والبرق لي .. والرعد والسحب الخطاطيف الطوال، تروى هجير النار تحت أضالعي الحرّى، وتلحف في السؤال، كيف ارتحالك في العشيِّ، بلا حقائب أو لحاف ؟
ترتاد أقبية المكاتب والرفوف السود
والصحف العجاف، زمنا يمصّّ الضوء من عينيك يصلب وجهك المنسيّ في الدرج العتيق “
ثم يمضي فيهز شجرة الشعر فتساقط رطبا جنيا..وشكرا من الشهد.
“منك الشباب عصارة النبت الجديد ومهرجانات الفصول، ونراك تحفل بالعواجيز العتاق صفائح الأيّام مقبرة الأفول
بيني وبينك سكّة السفر الطويل، من الربيع الي الخريف، تعلو قصور الوهم أنت، ومرقدي في الليل أتربة الرصيف
هم ألبسوك دثار خزّ ناعم الأسلاك
منغوم الحفيف، ودعوك تاج العزّ فخر العزّ مجد العزّ، شمس العزّ عزّ العزّ، صبّوا في دماك، عصارة الكذب المخيف
وأنا الذي حرق الحشاشة في هواك ممزّق الأضلاع مطلول النزيف
بيني وبينك قصّة الشعراء صدر غمامة
يلهو على الأفق الشفيف، هذا أنا
بحر بغير سواحل بحر هلامي عنيف
لا بدء لي لا قاع لي لا عمر لي
لكنني في الجوف ينبض قلبي، النزق اللهيف”.
وحين ترق المشاعر لحسن سوداني خالص تناوشه العامية السودانية،وتصبح أقرب لقلبه ولسانه….
” ..لو انت زهو الحسن في عيونك بدا
خليك أمين في العشرة لي آخر مدى..
كيف تنسى لهفة قلبي ليك..
تنسى الحنان الكان لديك..
لو مرّ اسمك في البعيد شايلو الصدى..
بلّ النسايم الحلوة بي قطر الندى..
تلقاني واقف مرتعش ضارع إليك.
عارف تمام ده المستحيل
الحُسن والطبع النبيل..
يغضب يجور..
لحظات خصامو المُرة تتمدد شهور..
صدقني لو أغلط معاك دايماً أقول
انت الأصيل انت الوفي..
عن حبي ما ممكن يميل..
يضحك سلام الدنيا في عيونك دليل
من بعدو ما داير دليل
برضو غلطان وبعتذر. “
كيف يمكن ان تغمض عيناك عن شعر مثل هذا ينساب مثل الماء العذب في حلق عطشان ذات نهار صائم.
” تعلّم وحدك التحديقَ نحو الشمسِ والمقلِ النحاسية، مرايا تخطف الأبصارَ لكن ليلنا الصاحي، وشرفتَنَا المسائية
على عينيك ، فوق رموشك التَعبْى ستارات ،، ستاراتُ
يضوعُ بنفسجُ الرؤيا وتخضرُّ النجمات.
بكلّ أناقة الدنيا ، تمدّك بالظلالِ الزرقِ بالنغمِ الذي يهتزّ في الريح، بدندنة الأراجيح
بساعاتٍ يظلّ الشعر يلهث فى مراكِضها ويطويها، ويكسب روحَه فيها
ويحلب قلبَه المطعونَ فوق دروبِها العطشى ليرويها..”
لم ذكرت مصطفى سند وحده..؟ لانه كان البداية التي فتحت ذهني وعيوني، كانت الصدمة التي هزت قناعات كونها سنوات الشباب الغض المكابر والمتحدية.
بعد ذلك انفتح الباب لتذوق الجمال في الفن والادب، أيا كان مصدره، وبلا حواجز.
كيف تقف أمام عبقريات عثمان حسين اللحنية والادائية دون أن تهتز مشاعرك، وماذا ستبحث وتقول عن عثمان حسين وبادي ومحمد احمد عوض وابو داود غير انهم هذبوا ذائقتنا…وهدهدوا ارواحنا المتعبة وجملوا ليالينا الكالحة.
ما تزال هناك رؤى ونظرات نقدية مختلفة حول كيفية التعامل مع الإبداع الأدبي والفني، ولست ناقدا..ولا صاحب نظرية جديدة أو قديمة…فقط علمتني الايام استطعام الجمال في الفن والادب دون النظر خارجه.