
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) في 15 أبريل 2023، يعيش السودان واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخه.
فقد أدت الحرب إلى مقتل عشرات الآلاف، ونزوح ولجوء أكثر من 12 مليون شخص داخليًا وخارجيًا، وسط انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة، وتهديدات متزايدة بالمجاعة في أكثر من 14 ولاية.
ومع تعذر الحلول السياسية وتعطّل مسارات التفاوض، أخذ الصراع منحًى يُعيد إلى الأذهان سيناريوهات الانفصال التي سبقت نشوء دولة جنوب السودان عام 2011، بل ربما يتجاوزها هذه المرة نحو تفكك متعدد الأوجه.
المؤشرات
عدة مؤشرات على الأرض تعكس واقعاً يفضي إلى تقسيم فعلي، أبرزها السيطرة العسكرية الموزعة بين الجيش والدعم السريع. فبينما يحكم الجيش فعليًا المناطق الشمالية والشرقية (بما فيها الوسط)، تبسط قوات الدعم السريع نفوذها على معظم دارفور وأجزاء من كردفان، حيث أُعلن مؤخرًا عن “هيئة حكم موحّدة” في مناطق سيطرتها، في خطوة تُعدّ تأسيسًا لسلطة موازية. هذا التطوّر ترافق مع محاولات إنشاء أجهزة أمنية ومدنية مستقلة، وشبكات علاقات خارجية متزايدة مع قوى إقليمية.
اللافت أن هذه الهيئة بدأت تسيير الشؤون المحلية، بما في ذلك جباية الضرائب، إدارة الأمن، وإصدار قرارات تنفيذية، ما يُضفي طابع “الدولة المؤقتة” على كيان الدعم السريع.
وفي المقابل، تواجه بورتسودان خلافات حادة بين قيادة الجيش و القوى الموقعة على اتفاق جوبا حول تقاسم المناصب الوزارية، ما يُضعف التحالف ويُربك الجبهة السياسية.
العوامل المُعززة لاحتمالات التقسيم
تتضافر مجموعة من العوامل لتجعل من سيناريو التقسيم أمرًا واردًا، ليس بالضرورة عبر إعلان رسمي، وإنما عبر واقع ميداني يتكرّس بمرور الزمن:
الانفصال الإداري الفعلي:
ظهور مؤسسات بديلة في مناطق سيطرة الدعم السريع، وتسيير شؤون الحياة العامة بمعزل عن المركز، يمثل مقدمة حقيقية لبناء كيان سياسي مستقل.
الهيمنة العسكرية على الأرض:
استمرار الحرب دون حسم لصالح طرف واحد، يخلق واقعًا جغرافيًا منقسمًا بين سلطتين، كل منهما تتحكم في مناطق شاسعة وتفرض قوانينها الخاصة.
الدعم الخارجي النشط:
وجود قوى إقليمية ترفد طرفي النزاع، خاصة الدعم السريع، بالدعم المالي والسياسي، ما يعزز قدرتها على تأسيس سلطة مستقرة نسبيًا داخل نطاق نفوذها.
الموارد الاقتصادية المستقلة:
تسيطر قوات الدعم السريع على مصادر تمويل ذاتي، كذهب جبل عامر وطرق التجارة الحدودية، ما يمنحها القدرة على الاستمرار في إدارة مناطق سيطرتها.
الحجج المضادة والتعقيدات
ورغم وجاهة الحجج التي تُقوّي فرضية التقسيم، إلا أن هناك معطيات تعاكس هذا المسار، وتُصعّب عملية التشظي والانقسام:
تعقيد التركيبة الاجتماعية:
السودان ليس مقسمًا بوضوح طائفي أو عرقي، بل تتداخل القبائل والمجتمعات في جغرافيا معقّدة، تجعل أي عملية فصل ترابي عملية شديدة الخطورة وغير مستقرة.
عودة الجيش لتعزيز موقعه:
تمكن الجيش في الأونة الأخيرة من استعادة مناطق مهمة، كما في الجزيرة وشرق النيل والخرطوم؛ ما أعاد التوازن الميداني وأضعف احتمالات الحسم لصالح طرف واحد.
رفض المجتمع الدولي:
حتى الآن، لم تطرح أي جهة إقليمية أو دولية علنًا خيار الاعتراف بسلطة موازية، ويبدو أن هنالك إجماعًا، ولو هشًّا، على ضرورة الحفاظ على وحدة السودان.
أزمة الشرعية داخل الكيانات الناشئة:
رغم محاولات الدعم السريع بناء مؤسسات، إلا أن القبول الشعبي بها لا يزال نسبيًا ومحدودًا في بعض المناطق، خاصة في ظل الانتهاكات المتكررة التي تُتهم بها.
السيناريوهات المحتملة
استنادًا إلى المعطيات الحالية، يمكن رسم أربعة مسارات محتملة لمستقبل السودان خلال الفترة المقبلة:
تقسيم فعلي غير معلن:
استمرار الصراع مع ترسيخ واقع سلطتين متوازيتين، كل واحدة تدير شؤون إقليمها بمعزل عن الأخرى، دون اعتراف دولي رسمي.
تقسيم رسمي معلن:
في حال فشل جميع المساعي نحو التسوية السياسية، قد تدفع الضغوط الداخلية والخارجية نحو تفاوض يفضي إلى انفصال مناطق بعينها، خاصة دارفور، على غرار ما جرى في جنوب السودان.
نظام فيدرالي بصلاحيات موسعة:
قد يُطرح كحل وسط، يمنح الأقاليم حُكمًا ذاتيًا واسعًا ضمن دولة موحدة، على أمل امتصاص النزعات الانفصالية.
عودة الدولة المركزية بقوة السلاح:
يتمثل هذا السيناريو في نجاح الجيش في استعادة السيطرة على كامل البلاد بالقوة، بدعم سياسي داخلي وخارجي، وهي فرضية لا تزال قائمة لكنها محفوفة بالتكلفة البشرية والسياسية العالية.
خلاصة وتوقعات
تُشير الشواهد بوضوح إلى أن السودان يتجه نحو شكل من أشكال التقسيم، قد لا يكون معلنًا رسميًا، لكنه فعلي في ملامحه وواقعه السياسي والعسكري.
الاحتمال الأكثر ترجيحًا خلال العامين المقبلين هو أن تتكرّس سلطة الدعم السريع في مناطق سيطرته الحالية، بينما تظل بورتسودان مقرًا لحكومة عاجزة ومفككة؛ وستكون النتيجة دولة منقسمة إلى كيانين، وربما أكثر، خاصة إذا قررت جغرافيات أخرى مثل شرق السودان (البجا)، جنوب كردفان (النوبة) أو جنوب النيل الأزرق (الفونج) المطالبة بالحكم الذاتي أو الانفصال التام.
ومع ذلك، فإن احتمال التقسيم الكامل ما يزال يواجه تحديات كبيرة، منها ضعف البنية الإدارية للمكونات المسلحة، وانعدام الاعتراف الدولي، وافتقار أي طرف لأوضاع اقتصادية مستقرة وسيادة على كامل موارده، ما يجعل من الوحدة المنقوصة أو الفيدرالية الموسعة سيناريوهات أكثر قايلية للتحقق في المدى المتوسط.