تقارير

السودان.. بين قسمة الغنائم وتآكل الدولة

مشاوير - تقرير: مصعب محمد علي

منذ أن أطاح الفريق عبد الفتاح البرهان بالحكومة الانتقالية في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، دخل السودان نفقا سياسيا مظلما، تتداخل فيه مظاهر الفراغ والاضطراب، حيث سلطة بلا شرعية، وعسكر بلا مشروع واضح، ودولة تتآكل أطرافها تحت وطأة الانقسامات والحرب.

 

واليوم، وبعد أكثر من أربعة 

اعوام من الانقلاب، تتجدد الأزمات في قلب ما تبقى من الدولة، وتحديدا في بورتسودان، التي تحولت إلى مقر مؤقت للحكومة.

 فمع تعيين كامل إدريس رئيسا للوزراء، بدا أن الساحة السياسية تقف على أعتاب صراع جديد، هذه المرة داخل أروقة السلطة نفسها، لا بين معسكري الحرب فحسب. إذ تصاعدت الخلافات بين إدريس وقادة الحركات المسلحة التي كانت قد نالت مواقع وزارية بموجب اتفاق سلام جوبا لعام 2020، بعدما بدأ رئيس الوزراء الجديد باتخاذ قرارات تهدف، كما قال، إلى “إعادة هيكلة السلطة التنفيذية” وإعادة توزيع النفوذ داخل الحكومة.

لكن ما اعتبره إدريس محاولة لإصلاح جذري، وصف من قبل قادة تلك الفصائل بأنه تهديد مباشر لمكتسباتهم وخرق لاتفاق السلام، ما فجر توترات داخل المجلس الوزاري نفسه، وفتح بابا واسعا للنزاع حول الحقائب والمواقع، في وقت لم تتبلور فيه بعد ملامح الحكومة.

هذا الصراع الناشب حول توزيع المناصب لا يكشف فقط عن هشاشة التحالفات المؤقتة التي جمعت بين العسكريين والفصائل المسلحة، بل يعكس أيضا المأزق الأعمق: دولة بلا رؤية جامعة، وفصائل تتصارع على الغنائم بينما تتآكل مؤسسات الدولة من الداخل، وسط حرب لا تزال مستعرة في مدن أخرى من البلاد.

“حتى الأنظمة الاستبدادية تشكل حكومات، لكن سلطة الانقلاب في السودان فشلت حتى في هذا”، يقول مدني عباس مدني، وزير الصناعة والتجارة في حكومة ما بعد الثورة. “غياب الشرعية، وتنازع مراكز القوة داخل المعسكر العسكري، جعلا من تشكيل الحكومة أمرا معقّدا، بل مستحيلا.”

 

أزمة شرعية لا أزمة كوادر

يرى مدني أن المأزق لا يرتبط بندرة الأسماء أو إحجام بعض القوى المدنية عن المشاركة، بل يكمن في غياب الشرعية السياسية. “البرهان سعى إلى تشكيل حكومة تمنحه غطاء إقليميا ودوليا، لكنه فشل في اجتياز عتبة العزلة، بعد أن جمدت عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي وتراجعت ثقة الشركاء الدوليين”.

ويضيف: “العسكر حاولوا هندسة شرعية بديلة، لكنهم اكتشفوا أن السلطة وحدها لا تنتج حكومة، ولا تمنح اعترافا خارجيا.”

 

قسمة مغانم بدل مشروع وطني

منذ لحظة الانقلاب، انشغلت السلطة الجديدة – وفق مراقبين – بتقاسم النفوذ لا ببناء الدولة. الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، ومن خلفهما الحركة الإسلامية، حول مشروع تشكيل الحكومة إلى ساحة لتنازع الامتيازات.

“السلطة العسكرية تتقدم بلا بوصلة”، يقول نصر الدين كوفس، المحامي والخبير القانوني. “الذين رفعوا شعار تصحيح المسار، لم يحملوا مشروعًا، بل تقاتلوا على غنائم السلطة”.

ويتابع كوفس: “المظاهرات المستمرة والرفض الشعبي الواسع خلقا مناخا يصعب فيه تسويق أي حكومة انقلابية لا تنبع من الشرعية الثورية.”

 

من الانفعال إلى العجز الكامل

كل يوم يمر بلا حكومة يعكس، برأي محللين، عمق الأزمة. الانقلاب لم يكن فعلاً سياسيا مدروسا بل لحظة انفعالية افتقرت للرؤية. أما أولئك الذين روجوا له باعتباره تصحيحا، فقد قادوا البلاد نحو العدم.

“الرفض الشعبي لا يقتصر على الانقلاب نفسه، بل يمتد إلى رموزه، وحتى إلى أي محاولة لإعادة تدوير النظام السابق”، يقول كوفس. “محاولة البرهان استرضاء بعض قادة الاتحاد الإفريقي لا تلغي غياب الحاضنة السياسية الداخلية.”

 

الشارع كخط دفاع أخير

يرى جعفر حسن، القيادي في التجمع الاتحادي، أن الشارع كان العامل الحاسم في إفشال مشروع الانقلاب. “منذ لحظته الأولى، لم يحظ بأي شرعية، ولم يُقابل بتأييد”، يقول في إفادة خص بها “الاستقصائي”.

“خرج الناس، يهتفون باسم الدولة المدنية، ويرفعون أعلام الثورة، في تظاهرات لم تهادن ولم تهدأ، لترسل بذلك رسالة بليغة: الشرعية لا تُورّث، ولا تُشترى، ولا تُؤخذ عنوة.”

هذا التفاعل الشعبي، كما يضيف، حرك الضغوط الدولية، التي انسجمت – ولو مؤقتا – مع نبض الشارع. لم يكن ذلك كافيا لإسقاط الانقلاب، لكنه أبقاه مؤقتا، فاقدا للمشروعية، وعاجزا عن الإقناع أو الإنجاز.

 

هل تنتج الانقلابات حكومات؟

تجربة ما بعد أكتوبر 2021 تقدم إجابة عملية: لم تنتج حكومة واحدة تحظى بقبول داخلي أو خارجي، بل ازدادت الهوة بين السلطة والشارع.

“أي سلطة تفقد سندها الجماهيري تصبح مهددة بالزوال، مهما امتلكت من أدوات القمع”، يقول كوفس، مستشهدا بثورات أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وديسمبر 2018.

 

وطن يُحكم من تحت

تبدو التجربة الأخيرة بمثابة برهان إضافي على أن الغلبة لا تصنع شرعية. “لقد أخفق الانقلاب، لا لأن مقاوميه أقوياء فقط، بل لأنه بلا خيال، بلا شرعية، وبلا مشروع”، يقول مدني. “كل ما تأسس بعده يقوم على بنيان باطل.”

والمأساة الكبرى، أن سلطة بلا حكومة أصبحت هي المألوف، في وطن يبحث عن نفسه وسط الأنقاض.

 

الانقلاب يأكل نفسه

لم يكن الشارع العقبة الوحيدة. “تعدد مراكز القرار داخل المنظومة الانقلابية كان عاملا آخر أسهم في الشلل السياسي”، يقول جعفر حسن. التناقض بين الجيش والدعم السريع والحركة الإسلامية حول السلطة إلى ساحة صراع بلا مركز.

“لا مشروع سياسي موحد، بل تكتيك مؤقت تحكمه الولاءات لا الأفكار، والغنائم لا الأهداف”، يضيف. لذلك، فإن تشكيل حكومة لم يكن مجرد مهمة مؤجلة، بل مستحيلة.

 

من السلطة إلى الحرب

الصراع الداخلي لم يُنتج توازنا، بل فتح بوابة نحو الحرب. “كانت الحرب نتيجة مباشرة للتنازع داخل السلطة”، يقول حسن. فشل جمع الأطراف على سلطة موحدة أو عدو مشترك، حوّل الحكم إلى انتحار سياسي وعسكري.

 

 إعادة إنتاج الفشل

من عبود، إلى نميري، إلى البشير، وأخيرًا البرهان، التجربة السودانية مع الحكم العسكري – كما يقول حسن – تقدم سجلا متكررا من الفشل. “المؤسسة العسكرية انحرفت عن دورها، وأصبحت طرفا سياسيا واقتصاديا يتنازع على السلطة.”

هذا الانحراف أسقط حياد المؤسسة العسكرية، فانهارت الدولة، واندلعت الحروب.

 

دعم إقليمي لا يطمئن

يشير حسن إلى أن بعض القوى الإقليمية دعمت الانقلاب بدافع مصالحها، لا حرصا على السودان. “المدنيون يصعب إخضاعهم، بينما يسهل التحكم في العسكريين”، يقول، مشيرا إلى أن الاستقرار الظاهري أهم بالنسبة لتلك القوى من الديمقراطية.

لكن النتيجة كانت عكسية: لا استقرار تحقق، ولا حرب حسمت، بل دولة ممزقة.

 

أفق خارج المسدس

“ما الذي يُنتجه العسكريون حين يحكمون؟”، يتساءل حسن، ثم يجيب: “لا حكومة ولدت من رحم الانقلاب، بل فقط جهاز حكم يزداد عزلة.”

المخرج – كما يرى – لا يكون بتعديل موازين القوى العسكرية، بل باستعادة الروح المدنية للمشروع الوطني، والاعتراف بأن لا دولة بلا شرعية.

 

الجيوش لا تبني دولا

وفي تحليل أكثر عمقا، يقول كوفس إن “الجيش مؤسسة وظيفتها الحماية، لا الحكم”. لا يمتلك العسكريون تكوينا سياسيا أو أدوات للتفاعل مع التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية.

ويختم: “الحكم ليس بندقية، بل خيال سياسي وعقل مرن. والسلطة العسكرية لم تظهر امتلاك أيّ منهما.”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى