منوعات

ذكريات من فرعية بانت وحى الضباط – اتحاد الشباب السوداني

مشاوير - بروفيسور أبشر حسين (*)

كنتُ مسئولاً عن فرعية بانت وحي الضباط التابعة لاتحاد الشباب السوداني، وكان سكرتير الفرعية حينها أخونا علي الأمين، الذي كنا نحب أن نناديه بـ”علي ود التومة”؛ إذ كانت والدته، التومة، ووالدته الأخرى، الشول، من النساء ذوات الشكيمة والقوة.

في إطار النشاط الثقافي للفرعية، كُلِّفنا بإجراء دراسة عن وضع المرأة في الغناء السوداني، مقارنةً بين أغاني الحقيبة والغناء الحديث. وقد قمتُ بهذه المهمة أنا وعلي ود التومة معًا.

لا زلت أذكر كيف ضربنا موعدًا مع الشاعر الكبير الأستاذ عوض أحمد خليفة، بما أننا كنا نسكن في نفس الحي (الموردة). ورغم صغر سنّنا حينها، فقد أتاح لنا الأستاذ عوض فرصة الجلوس معه، كما أرسل لنا رسائل توصية إلى الشاعرين الكبيرين: طاهر إبراهيم وإبراهيم الرشيد.

من أجمل ما علق بذهني من حديث الأستاذ عوض احمد خليفة، قوله:

 

> “أي شاعر أو مغنٍ لا يمكن النظر إليه إلا في إطار الزمن الذي عاش فيه. لا يصح أن نحاكم شاعر الحقيبة بقوانين هذا الزمان، فالأدوات مختلفة، والمفردة متأثرة بالقيم المجتمعية السائدة، والحراك الاجتماعي وقتها كان مليئًا بالقيود، مما جعل الجانب الحسي يطغى على الكثير من المشاعر الدفينة في القصيدة.”

كنا نخرج من لقاءاتنا معه مفعمين بالفرح والنشوة.

أذكر أن الأستاذ عوض أحمد خليفة كتب لنا خطاب توصية إلى دمتري البازار يشرح فيه فكرتنا حول هذه الدراسة. وكان العجيب أن دمتري أيضًا يسكن في حي بانت شرق، بالقرب من مركز صحي بانت. كنا نشاهده يوميًا ونحن نلعب “الدافوري” في ملعب فريق الأحرار غرب مدرسة المؤتمر، وهو يسير في الشارع وحوله مجموعة من الكلاب، فقد اعتاد إطعام كلاب الشوارع بما يُعرف بـ”الفشفاش” الذي كان يشتريه من سوق الموردة.

ذهبنا، أنا وعلي ود التومة، إلى منزل الأستاذ دمتري، فاستقبلنا بترحاب كبير. لا زلت أذكر ضحكته الطفولية وهو يقرأ الخطاب الذي أعطانا إياه الأستاذ عوض. وكان دمتري وقتها قد تجاوز الثمانين من عمره.

وأثناء حديثنا معه، حضرت زوجته فاطمة خميس بالشاي وجلست معنا. وقد عرفنا، من الحكايات، أن فاطمة كانت فنانة شاملة، شاعرة ومغنية. وهي زوجة دمتري البازار، الذي والده يوناني وأمه من دنقلا، وكانت لوالدة دمترى صلة قرابة (ابنة خالة) بـ سلاطين باشا، النمساوي صاحب كتاب السيف والنار، والذي له قصص طويلة مع الخليفة عبد الله التعايشي.

لعب دمتري البازار دورًا محوريًا في تطوير الغناء السوداني، لا سيما من خلال إدخاله للآلات الموسيقية الحديثة عبر علاقته بالموسيقي ود مرجان، قائد الجلالات (الموسيقى العسكرية). كما كان أول من أدخل آلة القانون إلى الساحة الموسيقية، وكانت له علاقة قوية بشاعر الطبيعة مصطفى بطران، الذي انفرد بأسلوبه المختلف عن اقرانه من شعراء تلك الحقبة في وصف الجمال، بعيدًا عن التوصيف الجسدي الشائع وقتها (مثل “الطابق البوخة”).

ومن إنجازاته البارزة، قيامه بأول تسجيل لأسطوانة غنائية في مصر – أظنها كانت للمغني بشير الرباطابي أو عبد الله ود الفكي بأغنية “ببكي وانوح”. كما يُحسب له اكتشاف الفنان الكبير إبراهيم عبد الجليل وتسجيل عدد كبير من الأسطوانات له بمصر.

أما زوجته فاطمة خميس، فكانت من رائدات فن المناحة، وقد كتبت وغنت مناحة شهيرة بعنوان “يا دمعي الاتشتت وغلب اللقّاط”، والتي غناها الفنان الكبير عبد العزيز محمد داؤود، وأبدع في أدائها لاحقًا الفنان الشاب مصطفى السني. كلمات المناحة كانت صادقة ومعبّرة، وتحكي عن حزنها العميق على والدها، لكنها تستدرك في ختامها مستنجدة بالأولياء، وعلى رأسهم (بر أبو البتول)، أحد مشايخ أم درمان المعروفين، والذي كانت له قُبّة في موقع مبنى المجلس الوطني الحالي.

فاطمة خميس، كما عرفناها، كانت قوية الشخصية، ذات صوت جهوري، وأكثر ما أعجبني فيها هو الهارموني بينها وبين زوجها دمتري، وطريقتها في المداخلات بروحها الفكاهية العالية.

رحم الله دمتري البازار، ورحم الله فاطمة خميس، فقد كانا من أعلام الحي، ومن رموز الغناء والثقافة في السودان.

 

* صورة فوتوغرافية للفنانة فاطمة خميسه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى