
في خضم الصراع العسكري والسياسي المستعر في السودان، يبرز المواطن السوداني كأكبر الخاسرين في مشهد من الانهيار الاقتصادي والتشظي النقدي، حيث لم يعد الجنيه السوداني مجرد عملة وطنية، بل تحول إلى أداة عذاب يومي يتنقل بها المواطن بين مناطق السيطرة المختلفة وكأنها “جواز سفر محدود الصلاحية”.
الجنيه من عملة إلى عبء
لم يعد الجنيه السوداني يحتفظ بأي قيمة حقيقية في السوق، حيث تجاوز سعر صرفه مقابل الريال القطري 850 جنيهًا، وهو رقم يعكس عمق الأزمة الاقتصادية وفقدان الثقة في السياسات المالية. أما الدولار الأمريكي فقد ارتفع إلى ما بين 1,250 إلى 1,300 جنيه، في حين سجل اليورو أكثر من 1,350 جنيهًا، وبلغ الريال السعودي نحو 850 جنيهًا، فيما لم يسلم حتى الجنيه المصري من التفاوت، ليسجل ما بين 70 إلى 75 جنيهًا سودانيًا.
المواطن في ورطة: العملة بين الرفض والقبول
لكن الأخطر من الأرقام هو الواقع المعاش، إذ أصبح الجنيه السوداني نفسه عملة تختلف صلاحيتها بحسب الجغرافيا. في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، تُرفض أحيانًا فئات معينة من العملة صادرة من مطابع ترتبط بالحكومة المركزية. في المقابل، ترفض مناطق سيطرة الجيش السوداني التعامل بأوراق نقدية جرى تداولها في الأسواق الخاضعة للدعم السريع، بحجة “عدم الثقة في مصدر الطباعة” أو “خشية التزوير”.
وبات المواطن هو الضحية الحقيقية لهذا الانقسام، حيث قد تصلح ورقة نقدية في مدينة، وتُرفض في مدينة أخرى، ما يعرقل قدرته على الشراء والتنقل والعمل. يرفض التجار وأصحاب الأعمال أحيانًا استلام مبالغ نقدية بحجج متعددة، ليتحول المواطن إلى رهينة لتباينات سياسية تحكمها أطراف النزاع، لا سياسات اقتصادية واضحة أو منظومة مصرفية موحدة.
انقسام نقدي واقتصاد موازٍ
لا يقتصر الضرر على الأفراد فحسب، بل ظهرت ملامح اقتصاد مزدوج داخل البلاد، حيث تختلف أسعار السلع، وآليات التحويل، وحتى طرق التبادل التجاري من منطقة لأخرى. وقد نشأت أسواق محلية تتعامل بالدولار أو الريال بدلاً عن الجنيه، وهو ما يعمّق الأزمة ويزيد من هشاشة الدولة وانهيارها المالي.
بلد واحد بعملتين
في الوقت الذي يحتاج فيه السودان إلى وحدة اقتصادية تسبق أي تسوية سياسية، يُترك المواطن يواجه مصيره منفردًا، بين مطرقة التضخم وسندان الانقسام النقدي. ومع استمرار غياب سلطة مركزية فاعلة، وبقاء النظام المصرفي في حالة شلل، فإن الجنيه السوداني، الذي كان يومًا رمزًا للسيادة الوطنية، تحول اليوم إلى ورقة مشكوك في صلاحيتها، يُحدد مصيرها وفق من يملك البندقية لا من يدير الخزانة العامة.