
زمزم، الأبيض، 23 يوليو، 2025، (جريدة الجريدة)- تفتحت عينا حليمة على الدنيا بأحد معسكرات النزوح التي لجأ إليها المواطنون في أعقاب اندلاع الحرب في الإقليم في العام 2003. بدأت حياتها في أحد الأكواخ، لم تجد والدها بجانبها، قيل لها إنه “تمرّد على السلطة” وحمل في مواجهتها السلاح ولم يعد. المعسكر يعني لها حياتها، ولا تدري عن ماضي أسرتها أكثر مما تراه من حزن في عيني والدتها، وبعض حكايات تتسامر بها النسوة في الليالي المقمرة.
تزوجت (حليمة) وبدأت تأسيس حياتها الخاصة برفقة زوجها وطفلتها الوحيدة فيما أسمته (وطنا)، بينما تطلق عليه الحكومة معسكر النزوح، بعد أعوام مما اعتبرته استقرارا، اندلعت حرب الخامس عشر من أبريل، وبحثا عن الأمن تجد (حليمة) نفسها في مكان مختلف أسمته (معسكر النزوح)، تعيش فيه على مضض وتحنّ إل وطنها.
البحث عن الأمن
أنتجت حروب السودان مناطق ومستعمرات سكنية لا تتوفر فيها أدنى مقومات البقاء، توفر بعض الغذاء وجانب من الخدمات الصحية، ويعتقد البعض أن المعسكرات أكثر أمناً وقدرة على توفير فرص للحياة والنجاة من جحيم الحرب، يستجمعون شتيت قواهم بالقرب من أصحاب (البزات الزرقاء) من موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية. المدن والمعسكرات المحيطة بها، لم تعد آمنة وتحولت لساحات حرب مما استدعى إجلاء النازحين إلى معسكرات نزوح جديدة أكثر أمنا.
تقارير نشرتها صفحات (غرف الطوارئ) في ولايات شمال دارفور وكردفان، تعكس عمق الأزمة الإنسانية التي يعيشها النازحين، وارتفاع أسعار السلع لأرقام خيالية وانعدام السيولة النقدية بسبب الحصار، مما دفع الآلاف منهم للهروب من خطر الموت، الجوع ونقص الغذاء، والانضمام لمعسكرات نزوح جديدة.
المنظمة الدولية للهجرة أشارت إلى انعدام الأمن في ولايتي شمال وغرب كردفان دفع أكثر من 30 ألف شخص إلى الفرار من بلداتهم وقراهم. يستمر الناس أيضا في الفرار من الأعمال العدائية في شمال دارفور، حيث أدى القتال في الفاشر إلى نزوح أكثر من 400 ألف شخص منذ أبريل من هذا العام، ومعظمهم إلى منطقة (طويلة).
وخلال الشهر الماضي، وصل ما يقرب من 8 آلاف من النازحين من شمال دارفور إلى محلية الدبّة في الولاية الشمالية وفقا للسلطات المحلية، وأشارت إلى أن التدفق زاد الضغط على الموارد المحدودة بالفعل، مما أثر على إمكانية الحصول على المأوى والمياه النظيفة والغذاء والرعاية الصحية.
نداء استغاثة
الإدارة العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين بدارفور أطلقت نداء استغاثة إلى كل المنظمات وكالات الأمم المتحدة والخيرين وأصحاب الضمير الإنساني بالتدخل العاجل لإنقاذ الوضع الإنساني المتفاقم بإقليم دارفور؛ حيث قال رئيس معسكرات النازحين واللاجئين بدارفور، رئيس معسكر (كلمة) إسحق محمد عبدالله، إن الوضع الإنساني مترد بصورة متسارعة في كل الإقليم، وخاصة معسكرات النازحين فى ظل استمرار الحرب والنقص الحاد في الخدمات الأساسية من صحة ومياه وتعليم، مما يزيد مخاوفهم من تضاعف المعاناة والنذر بكوارث أكثر فتكا بالمجتمعات بدخول فصل الخريف خاصة في ظل تفشي الكوليرا بدارفور.
وطالب عبدالله المنظمات ووكالات الأمم المتحدة والخيرين بالتدخل الفوري فى توفير مواد إيواء بصورة عاجلة لإيواء الفارين من المدن (المشمعات، الخيم، ومواد البناء المحلية) لمجابهة طوارئ الخريف، بجانب توفير الغذاء بصورة سريعة لمجابهة خطر المجاعة وسوء التغذية وسط الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن.
وشدد عبدالله على أهمية توفير الدواء والمعينات الصحية وكل المستلزمات الطبية خاصة المتعلقة بمرض الكوليرا وأمراض سوء التغذية وتوفير وصيانة مصادر المياه عاجلا، علاوة على توفير سبل كسب العيش لخفض حالات الانتهاكات التي تتعرض لها النساء ومحاربة البطالة وسط الشباب.
البحث عن حلول
الخبير الاقتصادي سليمان محمد عثمان، قال إن الحرب أنتجت واقعا اقتصاديا مختلفا، بعد أن تعطلت 80٪ من المشاريع الاقتصادية وتوقفت الأسواق، وانهارت الخدمة المدنية، مما جعل مهمة الحصول على الغذاء عملية معقدة جدا، ومحفوفة بكثير من المخاطر الأمنية، لذلك نجد أن النازحين يحرصين على البقاء في المعسكرات على الأقل لتوفير جانب من الطعام وبعض الأمن.
ويمضي عثمان، قيادات طرفي الحرب فشلت في توفير واقع اقتصادي مستقر في مناطق سيطرتها، وضمان استقرار المشاريع الإنتاجية. ويضيف: “أعتقد أن الخطوة التي أطلقتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، لتوزيع البذور لـ(1.5) مليون أسرة زراعية مقابل 7.5 مليون شخص في 17 ولاية من أصل 18 ولاية في السودان، خطوة موفقة لإعادة النشاط الإنتاجي، لمحاصرة المجاعة المحدقة بالسودان”. وتشير تقارير إلى أن أكثر من 750 ألف شخص في غرب دارفور، أي أكثر من نصف السكان يعانون جوعًا حادًا بسبب النزاع وانعدام الأمن الغذائي. وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إن الحملة تقدم البذورٌ الضروريةٌ للغاية، لمساعدة الأسر على زراعة محاصيلهم لموسم 2025 الرئيسي.
توزيع البذور على الأسر التي تمتهن الزراعة في الإقليم الملتهب، يأتي بدعم من الصندوق المركزي لمواجهة الطوارئ التابع للأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) شو دونج يو ذهب إلى أن “غرس البذور يعني غرس الأمل في الحصول على الغذاء”، مبيناً أن هذه “ليست مجرد أزمة جوع، بل هي سباق مع الزمن لإنقاذ الأرواح”. وأضاف: “يجب أن نتحرك بسرعة وحزم حتى يتمكن من هم في أمسّ الحاجة من إنتاج الغذاء الذي يحتاجونه للبقاء على قيد الحياة بسرعة”.
حماية المدنيين
استقرار الأوضاع الاقتصادية وعودة النازحين لقراهم رهين بتوقف الحرب ووقف الاقتتال، حيث يكثف المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في السودان، رمطان لعمامرة مساعيه لدعم الجهود الرامية لخفض تصعيد الصراع والدفع نحو حل سياسي في البلاد، وفق مركز إعلام الأمم المتحدة، وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك إن المبعوث الشخصي يواصل التأكيد على الأهمية الحيوية لتكثيف الجهود الدبلوماسية وتوحيدها بشكل أكبر من قبل المجتمع الدولي لإنهاء الحرب.
أوضاع مقلقة يعيشها النازحون والنازحات في بلد تحول بفعل الحرب لمعسكر للنزوح، تتردى فيه الأوضاع الاقتصادية التي تلامس حد الفقر وسوء التغذية وشح الأدوية المنقذة للحياة، تمدد الحرب ينذر بآلاف أخرى من النازحين يقترح عليهم الخوف ضرورة النزوح قبل أن تسحقهم الحرب ويعيشون مثل حليمة ووالدها الذي لم تره قط.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء هذه المادة من إعداد صحيفة (الجريدة) لتعكس حالة من الألم الإنساني المزمن في معسكرات النزوح بدارفور، حيث تتكرر المأساة لأكثر من 20 سنة. في هذه السنوات الطويلة، هجرت القرى الآمنة لصالح المعسكرات، لكن حتى هذه الأخيرة لم تكن آمنة ولو في الحد الأدنى من الأمان.