
في مشهد يعكس عمق التعقيد السياسي في ليبيا، استقبل رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، الأربعاء، المستشار مسعد بولس، ممثل الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، لمناقشة شراكة اقتصادية استراتيجية بين البلدين، يُقدَّر حجمها بنحو 70 مليار دولار.
اللقاء، الذي احتضنته طرابلس، ركز على فرص التعاون في قطاعات حيوية مثل الطاقة، المعادن، الاتصالات، البنية التحتية والصحة، في وقت قدم فيه الفريق الحكومي الليبي عرضا مفصلا لمشاريع جاهزة قيد التنفيذ، طامحا إلى اجتذاب كبريات الشركات الأميركية للاستثمار في ليبيا.
لكن خلف هذا العرض الباذخ، تتخفى مؤشرات سياسية متعددة الاتجاهات، تجعل من “الاستثمار الأميركي” في ليبيا مشروعا محاطا بالضباب أكثر من كونه بوابة عبور نحو التنمية المستدامة.
استثمار اقتصادي أم توظيف سياسي؟
بالنظر إلى ضخامة العرض الليبي، تبرز تساؤلات حول مدى واقعيته في بلد يعاني انقساما حادا ومؤسسات هشة، دون بنية قانونية موحدة أو إطار تشريعي قادر على إدارة تدفقات مالية بهذا الحجم.
في الواقع، يفهم العرض الليبي كمحاولة سياسية من حكومة الدبيبة لإقناع واشنطن بأنها الشريك الأفضل، في وقت تنصاعد فيه المنافسة بين حكومتي الشرق والغرب.
انخراط مزدوج
زيارة بولس إلى طرابلس لم تكن الأولى في جولته، فقد سبقتها لقاءات في بنغازي مع مسؤولين تابعين لحكومة البرلمان وقوات شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر. الأمر الذي فهم بأنه رسالة واضحة من دوائر ترامب مفادها أن واشنطن مستعدة للتعامل مع كلا الطرفين، وفق مصالحها.
هذا الانخراط المزدوج يعكس من جهة براجماتية أميركية، لكنه من جهة أخرى يعمّق الانقسام، ويمنح كل طرف انطباعا بأنه الطرف المقبول دوليا، ما يهدد فرص التوصل إلى تسوية وطنية شاملة.
ملف الهجرة
في الخلفية، تطفو قضية شديدة الحساسية: ملف ترحيل المهاجرين. إذ كشفت تقارير إعلامية أميركية أن واشنطن، عبر مستشاري ترامب، تبحث إمكانية إرسال مهاجرين غير شرعيين – بعضهم من ذوي السوابق – إلى ليبيا، بل وتسعى لإبرام اتفاق شبيه باتفاقيات “الدولة الثالثة الآمنة”.
وتجري هذه المفاوضات بشكل مواز، ليس فقط مع حكومة الوحدة الوطنية، بل أيضا مع نجل حفتر، صدام، ما يكرس تعدد القنوات واختلاف الأولويات. فبينما تسعى طرابلس لاستقطاب رؤوس أموال، يراد من بنغازي أن تتحول إلى ساحة ترحيل بشرية.
منظمات حقوقية ليبية ودولية أعربت عن قلقها الشديد من هذا التوجه، ووصفت الأمر بأنه “خرق للمعايير الدولية”، نظرا لسجل ليبيا المروع في معاملة المهاجرين، حيث تنتشر تقارير موثقة عن التعذيب والاستغلال والاحتجاز القسري في مراكز خارجة عن سيطرة الدولة.
ردود فعل متباينة
في الداخل الليبي، تراوحت ردود الفعل بين الترحيب الحذر والاستنكار. يرى بعض المحليين أن الشراكة المقترحة قد تفتح نافذة لفرص تنموية حقيقية إذا ما توفرت الشروط المناسبة. لكن آخرين اعتبروا أن ما جرى محاولة لتسويق إنجازات سياسية أكثر من كونه اتفاقا اقتصاديًا مدروسا.
وغرد النائب السابق خالد المشري قائلاً: “تقدم مشاريع بـ70 مليار دولار دون إطار قانوني أو مراجعة برلمانية؟ هذا استخفاف بمقدرات الدولة”.
تناقضات
وتأتي هذه التحركات في سياق سياسي دولي مضطرب، إذ فرضت الإدارة الأميركية ذاتها – عبر ترامب – رسوما جمركية على الواردات الليبية بنسبة 30%، في خطوة اعتبرت إشارة تحذير مزدوجة: من جهة ترحيب بالاستثمار، ومن جهة أخرى ضغط لانتزاع تنازلات أمنية أو سياسية، خاصة في ملف المهاجرين.
ليبيا كساحة لا كلاعب
إن قراءة شاملة لهذا المشهد تشير إلى أن واشنطن – أو على الأقل إدارة ترامب المنتظرة – لا تبحث عن شريك ليبي موحد، بل عن “منفذ مصالح” أيا كان موقعه الجغرافي أو السياسي.
وتبدو ليبيا، في هذا السياق، ساحة نفوذ أكثر من كونها شريكا سياديا. شراكات تصاغ خارج المؤسسات، وملفات أمنية تُناقش مع أطراف متوازية، بينما يبقى المواطن الليبي رهينا لمعادلات لا يصوغها، كما عبر مغردون.
الطريق إلى التنمية والاستقرار لن يمر عبر وعود بلا آليات، ولا عبر صفقات تدار في الظل، بل يتطلب دولة موحدة، وإرادة وطنية مستقلة قادرة على التفاوض بندية، لا بمنطق الاسترضاء أو التبعية.