
يشهد السودان وضعاً صحياً مقلقاً في ظل تزايد حدة الأمراض والأوبئة الفتاكة بخاصة الكوليرا وحمى الضنك في ولاياته الـ18 كافة، وسط تفاقم الإصابات في العاصمة الخرطوم ومناطق عدة في إقليم دارفور مع حلول فصل الخريف، في وقت تنشط هذه الأمراض في أشد البيئات التي تفتقر إلى المستشفيات والإمدادات الطبية والوسائل العلاجية، مما يعكس حجم التحديات التي تواجه الدولة ممثلة في وزارتي الصحة الاتحادية والولائية، إلى جانب المنظمات المهتمة بالشأن الإنساني نتيجة سوء الأوضاع المعيشية ونقص الخدمات الأساسية التي أفرزها الصراع المسلح بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منذ اندلاعه في منتصف أبريل 2023.
في الأثناء أعلنت وزارة الصحة الاتحادية، في أغسطس الماضي، عن تفشي وباء الكوليرا وتراجع معدلات الإصابات إثر تلقي السودان نحو 15 مليون جرعة لقاح من جهات مانحة عبر منظمة الصحة العالمية. ولاحقاً أشار وزير الصحة السودانية هيثم محمد إبراهيم إلى رصد موازنة للولايات لمواجهة أخطار الخريف، مؤكداً أن موسم الأمطار الحالي يحتاج إلى جهد كبير في مجال إصحاح البيئة ومكافحة نواقل الأمراض بالعاصمة، في وقت بدأت بعض الولايات فعلياً بتنفيذ حملات لإصحاح البيئة من مواردها.
في المقابل، أفاد تقرير الترصد والمعلومات بوزارة الصحة بانحسار معدل الإصابة بالكوليرا في الخرطوم وبعض الولايات، في حين لا تزال ولايات أخرى تسجل ارتفاعاً مطرداً، إذ تم تسجيل 1575 إصابة منها 22 حال وفاة في 44 محلية خلال أسبوع ليرتفع تراكمي الإصابات في 133 محلية تتبع 18 ولاية إلى 101450 إصابة بينها 2515 وفاة منذ يوليو عام 2024، فضلاً عن تسجيل نحو 325 إصابة بحمى الضنك في ولاية الخرطوم ليكون العدد التراكمي بالبلاد 5350 إصابة بينها ست حالات وفاة من 24 محلية في ست ولايات. ولفت التقرير إلى أمراض أخرى مثل الحصبة، إذ تم تسجيل 35 إصابة غالبيتها في محلية طويلة بولاية شمال دارفور، فيما بلغت الإصابات بالملاريا 46458 إصابة.
على صعيد متصل نبه برنامج التحصين الموسع في بياناته أن الحملات ضد الأوبئة نفذت في بعض الولايات وتتواصل في أخرى، متوقعاً مزيداً من الحملات خلال الفترة المقبلة.
في غصون ذلك شكا مواطنون من تزايد الحميات في أحياء العاصمة مع صعوبة الحصول على المستشفيات لاستقبال المرضى، مطالبين، في ظل تطبيع الحياة وعودة المواطنين، بضرورة تهيئة البيئة بصورة عملية وجادة.

أوبئة وأخطار
من جانبه قال مجدي القديل أحد المواطنين الموجودين في ضاحية الجرافة بمدينة أم درمان “في الحقيقة، الظروف الاقتصادية حالت دون نزوحنا عندما اندلعت الحرب، فضلاً عن الصعوبات البالغة التي واجهتنا في توفير مصاريف المغادرة، مما جعلنا عرضة للأخطار طوال أشهر الحرب وحتى الآن، بخاصة من ناحية انتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة التي حصدت أرواح المواطنين، وأصبحت من أكبر المهددات الحياتية، وتفاقمت مع دخول فصل الخريف بسبب التوالد الكثيف للبعوض والذباب، مما أسهم في الإصابة بالحميات خصوصاً حمى الضنك، إضافة إلى مضاعفات المرض بسبب النقص الحاد في العلاجات المنقذة وصعوبة الحصول عليها”.
وأضاف القديل “في تقديري الأوضاع الصحية في البلاد كارثية، إذ لم تعد المستشفيات متوافرة كما كانت في فترة ما قبل اندلاع الحرب، إذ إن المستشفى الوحيد في أم درمان الذي ظل يقدم الخدمات العلاجية يعاني ضغطاً كبيراً بسبب تكدس المواطنين العالقين، كذلك نجد أن عدم تناول الوجبات الغذائية بصورة متكاملة فاقم من انتشار هذه الحميات، فضلاً عن الأمراض المرتبطة بسوء التغذية، إضافة إلى انعدام المياه النظيفة الصالحة للشرب، فمعظم المواطنين يشربون مياه النيل الملوثة، إلى جانب اعتمادهم على مياه الآبار المهجورة التي تراكمت فيها فضلات الحشرات والبكتيريا والفطريات نتيجة عدم إجراء عمليات التنقية، مما تسبب في كثير من الأمراض”،
وواصل “كما ساعد تراكم المياه بسبب هطول الأمطار الغزيرة في تدهور الوضع الصحي والإصابة بالإسهالات المائية والنزلات المعوية وظهور حشرات تسبب التهاب الجلد”، وأشار أيضاً إلى أن “الموت يطارد المدنيين الذين باتوا في حال نزوح داخلي بحثاً عن أحياء سكنية تتوفر بها مقومات الحياة الأساسية حفاظاً على سلامتهم”.

عودة مضللة
إلى ذلك قالت نضال محمود العائدة إلى منطقة الكلاكلة جنوب الخرطوم إن “الأوضاع الصحية في الخرطوم مقلقة للغاية والمخاوف تمتد لتشمل الأطفال الذين يموتون بسبب الأمراض المعدية، بخاصة الحصبة، إلى جانب سوء التغذية الناتج من الجوع، وعدم مقدرة الأسر على توفير الغذاء وسط غلاء فاحش في الأسعار في ظل عدم توفر فرص للعمل، فضلاً عن ظهور مرض السل والتهاب العيون”.
وتابعت “صحيح كنا في مناطق النزوح قبل عودتنا الطوعية للخرطوم نسمع أن الوضع ما زال مخيفاً من ناحية الأمراض، لكن كان حلم العودة طاغياً ومسيطراً علينا لأن المعاناة كانت كبيرة، وللأسف، واقع الحال الآن في العاصمة يؤشر إلى أننا موعودون بحياة قاسية وغير مستقرة جراء الدمار الشامل، وتراكم النفايات وانتشار الأمراض المرتبطة بالتلوث البيئي مثل الكوليرا وحمى الضنك المنتشرة على نطاق واسع، ومن دون أدنى شك أن أحياء الخرطوم غير صالحة للاستقرار فيها الآن”.
وأوضحت العائدة إلى الخرطوم “في نظري أن الدعوات إلى العودة الآن تعتبر مضللة لعدم توفر الخدمات التي من شأنها تقود إلى الاستقرار، فالعاصمة تفتقد مقومات الحياة في الوقت الحالي، بخاصة في جانب الرعاية الصحية مع انتشار الأمراض الغريبة مثل الملاريا الحبشية، وتتمثل في أعراض مميتة منها الحمى والصداع والقيء وفقدان الشهية وتكسير الجسم، فكل هذه الأعراض تؤدي إلى فقر دم حاد وتسببت في مئات الوفيات”.

مسؤولية مجتمعية
في السياق أوضح أحد العاملين في القطاع الصحي فضل عدم ذكر اسمه أن “الأمراض والأوبئة تتوسع في الانتشار في ولاية الخرطوم بخاصة مناطق جبرة والكلاكلة وشرق النيل والسلمانية بجبل أولياء، إلى جانب مدينة أم درمان الكبرى التي تكتظ بالسكان، لا سيما حمى الضنك”، وتابع “كان من الممكن الشفاء من الحميات، لكن غالبية المستشفيات لا تزال خارج الخدمة مع محدودية العلاج في بعضها التي تم تشغيلها عقب تحرير الخرطوم، مما أدى إلى بقاء العشرات من المصابين في المنازل مع عدم الدراية بالمرض والخبرة في التعامل معه، إذ يتلقون العلاجات البلدية وهي بالتأكيد غير مجدية ولا يمكن أن تحد من تفاقم المرض”.
وأضاف المتحدث نفسه “الحرب تسببت في إغلاق أكثر من 155 مستشفى حكومياً وخاصاً في العاصمة، علاوة على المراكز الصحية في الأحياء وتعرضها للنهب والدمار والتخريب جراء القصف والاستهداف الممنهج، في وقت يقع معظمها في مناطق سيطرة ’الدعم السريع‘ التي دارت فيها معارك عنيفة خصوصاً وسط الخرطوم”.
وزاد أيضاً “الوضع البيئي المأزوم في البلاد في فصل الخريف عادة ما يسهم في انتشار نواقل المرض كالبعوض المسبب الرئيس في حمى الضنك”، وأشار العامل في القطاع الصحي إلى أن “المسؤولية المجتمعية تحتم علينا الوقوف إلى جانب المواطنين، لذا عملنا على تقديم الخدمات المتاحة، لكن المؤسف أن حمى الضنك تؤدي إلى مضاعفات يحتاج معها المريض أحياناً إلى الحصول على الصفائح الدموية، وهذا أمر كان صعباً ولا يزال قائماً في الوضع الحالي بالخرطوم”.

انعكاسات صحية
من جهته، قال مدير الإدارة العامة للطب العلاجي بوزارة الصحة الاتحادية المغيرة الأمين جاد السيد إن “القطاع الصحي لا يختلف عن غيره من القطاعات التي تأثرت بالحرب الدائرة بالبلاد، بل أكثرها تضرراً لارتباطه الوثيق بحياة المواطنين، وانهياره زاد الأزمة الإنسانية سوءاً في تقديم الخدمات الطبية عبر المستشفيات والمراكز الصحية المتخصصة التي دأبت على خدمة المرضى المصابين بالأمراض المزمنة مثل أمراض القلب والكلى والأورام والجهاز الهضمي”
وأضاف “من المؤسف أن التأثر لم يقتصر على الولايات التي شهدت عمليات عسكرية نشطة، إنما شمل الولايات التي استضافت النازحين بسبب موجات النزوح هرباً من جحيم الحرب، إذ كانت له تبعات وانعكاسات على النظام الصحي، في وقت كانت تتم معاينة نحو 300 مريض في اليوم، ووصلت أعداد المرضى إلى 1000 حالة في ظل نقص في الكوادر المؤهلة والمعامل وخدمات التمريض والسعة السريرية “.
وأضاف “هذه الحرب أوجدت واقعاً اقتصادياً منهاراً أسهم في غياب التمويل باعتباره إحدى ركائز استمرار تقديم الخدمات العلاجية في المستشفيات، إلا أن الانتصارات التي حققها الجيش في ولاية الخرطوم وإعلان خلوها من ’الدعم السريع‘ ساعد في تشغيل عدد كبير منها”.
وأوضح أن “الوزارة تبذل جهوداً كبيرة حتى تتعافى المنظومة الصحية في البلاد، ولا ننسى أن هناك كوادر ظلت صامدة تمارس العمل على رغم الاستهداف المباشر، إذ قتل 60 كادراً طبياً خلال هذه الحرب، فضلاً عن تضحيات الطواقم الطبية في مدينة الفاشر التي كانت تتنقل من مستشفى إلى آخر حين قصفها، مما يدل على تفاني القطاع الصحي في خدمة المواطن تحت وابل الرصاص”.
ونوه مدير الإدارة الطبية بأن “هناك تنسيقاً مع المنظمات الدولية والمحلية وجهات مانحة، وحتى الآن عادت نحو 10 مستشفيات للخدمة بمنحة من البنك الدولي عبر منظمة الصحة العالمية، فضلاً عن مساهمة بنك التنمية الأفريقي في تشغيل 20 مستشفى على مستوى البلاد، إلى جانب جهود المكون المحلي المتمثل في وزارة المالية الذي تكفل بعودة 40 مستشفى، إضافة إلى مساهمة منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسيف) في استعادة المراكز الصحية، علاوة على دعم الدول الصديقة”.
وبين أن السودان تحاصره الآن الأوبئة والأمراض بسبب الحرب والظروف الطبيعية لجهة معدلات الأمطار وارتفاع الإصابات الناجمة عن نواقل الأمراض والذباب، “لكن على رغم ذلك، بذلت جهود مقدرة أدت إلى انحسار وباء الكوليرا”.