
يبدو أن الفاشر في طريقها لأن تحطم اغلالها، ولأن تكسر قيدها الدامي، ولأن تفك أسرها من براثن بعض ابنائها الذين اختاروا في غفلة من الزمن، التموضع بها في المكان الخطأ من التاريخ.
فأقعدوها عن القافلة، أو قعدوا بها عن ركب التغيير، فافقدوها موقع صدارتها وريادتها التاريخية.
أما الآن، فدعوا أجنحتها تصفق، دعوها تحلق، دعوا مدينة كبار السلاطين تخرج من نارها ورمادها براقة متوهجة في كامل زينتها.
هي لوحدها تعلو البحر بحوالي 700 متر فوق سطحه، منذ أن اختارها السلطان عبدالرحمن الرشيد أواخر القرن الثامن عشر مقرا دائما لحكمه.
علي أية حال، فقد ظلت الفاشر علامة فارقة علي مر التاريخ.
تمثل نقطة البداية لأي مرحلة منه هنا، ونقطة نهاية لغيرها من مراحل.
وللمعلومية ففي التاريخ كانت الحروب تخاض حول المدن بهدف الاستيلاء عليها، من خارجها، لا من داخلها.
بل حتي معركة ستالينغراد التي يشبهها البعض بمعركة الفاشر، قد دارت كل معاركها التي حسمت الحرب العالمية الثانية بالنصر على الرايخ الألماني، من حولها لا من داخلها، من بيت لبيت، ومن شارع لآخر، كما هو حال حرب المدن التي جرت بدارفور، وأدت لتساقط الفرق والحاميات الحكومية كأحجار الدومينو.
قبل أن يختار الإسلاميون وجيشهم المنكسر، الفاشر مسرحا لآخر معاركهم بإقليم دارفور، مع قوات الدعم السريع.
حيث جعلوا من هذه المدينة نقطة تجمع رئيسة لقواتهم المنسحبة من الفرق والحاميات الاخري، ثم ليحفروا تحت أرضها مخازنا عميقة لإمداد طويل وحصونا خفية لا تري، سيطرت الي الآن علي معظمها قوات الدعم السريع المتقدمة علي الأرض.
وبطبيعة حال هذا النوع من الحروب، تنشأ بين المدن ومن يقومون بمهاجمتها علاقة جدلية.
فمن يدخل مقاتلا الي أي مدينة لا محالة يتغير، وفي الوقت نفسه يغير هو في المدينة ذاتها ما استطاع إلي ذلك سبيلا.
فالحرب كما يقال هي إستمرار للسياسة، بوسائل أخري، بل إن السياسة نفسها هي لعبة مثل كرة القدم، لا تلعب علي الورق، لكن تحصل نتائجها علي الأرض، باقدام ورؤوس قادرة علي ترجمة خطط مدربيها، بشكل دقيق ومنظم، علي مستطيل أو مربع ليس هو بالضرورة أخضر دائماً.
فمباريات الكرة تلعب عادة علي مراحل وأشواط وأجزاء، بيد أن إحراز الاهداف فيها يظل متاحا للرماة الي آخر كسر من الثانية قبيل إطلاق صافرة النهاية.
وكذا فإن الأوضاع علي ملاعب السياسة ووجهها الآخر الحرب، قد لا يختلف كثيراً عن ما يطرأ علي أوضاع اللاعبين في ميادين كرة القدم.
حين تتقلص المساحات تحت أقدامهم، ويتبخر الزمن من بين سيقانهم، لتنحسر فسحة التفكير والتصرف، وترتفع وتيرة الخوف والشفقة والارتباك، بما قد يفرض علي المدربين أحيانا تعديل خطط اللعب، أو تغيير وظائف وخانات هؤلاء اللاعبين أنفسهم، أو حتي بتبديل إتجاهات وطريقة اللعب ذاتها.
وللحقيقة فتفاعلات الحرب وديناميات السياسة، قد تؤدي هي أيضا لخلط في أوراق اللعب بين الداخل والخارج، بما يصنع حالة تشبه لعب الأطراف الذي يجري دائماً علي حواف حادة كهذه.
ربما تجبر هي لاعبي هذه المنطقة الحرجة علي مصادقة الخطوط التي ترسم نهايات الملعب، وكذلك علي ضرورة استشعار طبيعة الوجود والحركة في مثلها، كجزء لا يتجزأ من مهامهم المركبة في أحوال تقدمهم أو تقهقرهم، في معارك الأمتار الأخيرة والثواني القاتلة.