
على رغم عودة أكثر من 2.2 مليون لاجئ ونازح سوداني إلى المناطق التي حررها الجيش من قبضة قوات “الدعم السريع”، فإن الآلاف منهم لا يزالون يفتقرون إلى الخدمات الأساس ويعانون سوء الأوضاع، وبخاصة النساء في ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار، إذ لا يستطعن الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والمياه والصرف الصحي، وكذلك انعدام فرص العمل والتنافس على الموارد، فضلاً عن الحاجة إلى الأوراق الثبوتية والاعتراف القانوني.
هذا الواقع المؤلم تسبب في تزايد حالات زواج القاصرات والعنف القائم على النوع الاجتماعي، إضافة إلى الاستغلال والاعتداء الجنسي والتحرش نتيجة عدم كفاية التدابير الأمنية وغياب أجهزة إنفاذ القانون عن القيام بدورها.

أزمات وعقبات
عبير الفاتح العائدة إلى منطقة الكلاكلة في الخرطوم تقول “نعيش الآن ظروفاً مأسوية، غالبية أحياء جنوب العاصمة لا تزال تعاني الانهيار الشامل للبنية التحتية وفقدان الخدمات الأساس، علاوة على الانفلات الأمني وغياب القانون، حتى بعد طرد قوات” الدعم السريع” واستعادة الجيش السيطرة على ولاية الخرطوم”.
وأضافت النازحة العائدة قائلة “لم تعد الحياة كما كانت، بل تحولت إلى رحلة كفاح يومية قاسية للحصول على الخدمات خصوصاً الكهرباء التي تعمل ساعات قليلة داخل المناطق المحظوظة، أما ترتيبات كلفة المعيشة فهي غاية الصعوبة بسبب ارتفاع الأسعار بنسبة كبيرة بصورة يومية”.
وأوضحت الفاتح أن “عدداً كبيراً من النساء يواجهن صعوبات بالغة في استعادة منازلهن بسبب رفض لجان الأراضي في ولاية الخرطوم تسليم البيوت دون وجود المستندات القانونية، التي فقدت نتيجة عدم حملها في رحلات النزوح أو تعرضها للنهب والسلب”.
وأردفت المتحدثة “تضع السلطات عقبات وعراقيل أمام عودة عدد من النساء إلى العمل في القطاعين العام والخاص، وكذلك ممارسة أنشطة تجارية أو مشاريع صغيرة، على رغم أن معظمهن يعلن أسراً ممتدة”.
ارتفاع الوفيات
مروة بشير وأسرتها عادوا بالفعل إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، لكنها تقول إن “عاصمة الإقليم تحولت إلى مدينة للأوبئة والبعوض والحميات الغامضة، بينما يمثل البحث عن الأدوية المعدومة أمراً مكلفاً ومضنياً إذا وجدت، ومعظم المستشفيات القليلة العاملة مكتظة بالمصابين بحمى الضنك والملاريا، ويضطر المرضى إلى الانتظار ساعات طويلة للحصول على المحاليل الوريدية”.
وأشارت مروة إلى أن “النساء والفتيات يفقدن القدرة على الوصول إلى الإمدادات والخدمات الصحية الأساس، فضلاً عن ارتفاع أعداد وفيات الأمهات والحوامل، ومعاناة الآلاف اللاتي يواجهن شبح الموت بسبب انقطاع علاج مرضى الفشل الكلوي والسرطان والسكري”.
ولفتت بشير إلى أن “مئات النساء داخل ولاية الجزيرة يعانين بشدة، وأن هناك حالات وفاة عدة سجلت بين السيدات بسبب سوء التغذية والتسمم وحمى الضنك والتيفوئيد، إلى جانب مضاعفات الولادة وحالات الإجهاض المتكررة”.

عوائق وأخطار
وسط هذه الأجواء، قالت هيئة الأمم المتحدة للمرأة ضمن تقرير لها، إن “ثلاثة أرباع النساء العائدات إلى الخرطوم وجنوب كردفان والجزيرة يفتقرن إلى الخدمات الأساس، وأن العوائق أمام الحصول على هذه الخدمات تتمثل في انعدام الأمن وضعف البنية التحتية وارتفاع أسعارها، وكذلك بعد المسافة والتمييز”.
وبيَّن التقرير أن “ثلاثة من كل أربع عائدات لا يستطعن الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والتعليم والمياه والصرف الصحي، وأن 75 في المئة من النساء العائدات غير قادرات على استئناف العمل أو أية أنشطة مدرة للدخل، خلال وقت تفتقر فيه 56 في المئة منهن إلى وثائق الهوية التي تمكنهن من الوصول إلى الخدمات المالية”.
وأشار التقرير إلى أن “امرأة واحدة من بين كل 10 نساء تمكنت من استعادة السكن أو الأرض عند عودتهن، في حين أبلغت 85 في المئة من النساء عن رفض سلطات المجتمع المحلي ولجان الأراضي لمطالبهن، وأشارت نسبة مماثلة إلى غياب المستندات القانونية”.
وذكر التقرير أن” 46 في المئة من النساء فقط أتيحت لهن فرص الحصول على دعم قانوني في ما يتعلق بمطالب استعادة السكن والأراضي، وشدد على أن خدمات الصحة الإنجابية والاستجابة للعنف القائم على النوع الاجتماعي والتعليم والمياه والصرف الصحي لا تزال خارج متناول النساء، بسبب الكلفة العالية وبعد المسافة ونقص الوثائق القانونية”
وكشف عن إبلاغ 37 في المئة من المنظمات النسائية عن ارتفاع الأخطار على النساء عند عودتهن، إذ تواجه 70 في المئة من الفتيات خطر الزواج القسري والاستغلال الجنسي والاعتداء، وأوضح أن 53 في المئة من مقدمي الخدمات أشاروا إلى أن العنف الجنسي آخذ في الارتفاع، كما أكدت 68 في المئة من النساء تزايد التحرش والاستغلال في نقاط التفتيش”.
وأوصى التقرير بضرورة إعطاء الأولوية لتمويل المنظمات النسائية المحلية، وبخاصة داخل أماكن العودة والمناطق النائية، ودعا إلى إنشاء خدمات متخصصة للاستجابة للعنف القائم على النوع الاجتماعي في الخرطوم والجزيرة وسنار.

حرمان الحقوق
على الصعيد نفسه، أوضحت ملاذ محجوب العائدة وأسرتها إلى ولاية سنار أن “معظم بنية المدينة الخدمية والحيوية التحتية دمرت ونهبت، لا سيما الكهرباء التي تشكل عصب ومحرك كل الخدمات، إضافة إلى توقف محطات المياه عن العمل، مع الغلاء الطاحن وارتفاع أسعار السلع”.
ونوهت محجوب بأن “مئات النساء فقدن وظائفهن الأساس داخل القطاعين العام والخاص، ورفضت مؤسسات عدة عودتهن إلى العمل من جديد بحجة فقدان الوثائق والأوراق الثبوتية”.
ولفتت المتحدثة إلى أن “بعض الأسر فشلت في إلحاق الفتيات بالمدارس بسبب نفاد المدخرات المالية، مما جعل الزواج المبكر آخذاً في التزايد بدوافع اجتماعية متعددة، فضلاً عن حرمان آلاف الفتيات من حقهن في التعليم والاختيار في ما يخص شريك حياتهن”.

قضية جوهرية
وضمن هذا السياق، عدت الناشطة في العمل النسوي وحقوق المرأة أفراح عبدالعزيز أن “حماية النساء والفتيات باتت قضية جوهرية يجب الالتفاف حولها من جميع المنظمات التي تدافع عنهن وترصد أوضاعهن، فهن في أمس الحاجة إلى تحريكها وعدم السكوت عنها في ظل الوضع الراهن، الذي تغيب خلاله الجهات التي تعمل في هذا المجال”.
وأوضحت عبدالعزيز أن “حرمان آلاف النساء من حقوقهن الأصلية في العمل وتلقي خدمات الصحة الإنجابية والدعم الطبي والقانوني والنفسي في ظل الظروف الحالية يمثل كارثة إنسانية، تتحمل الدولة في المقام الأول مسؤوليته”.
وشددت الناشطة في العمل النسوي وحقوق المرأة على “ضرورة التزام الدولة بحماية النساء من جميع صور العنف والتمييز، والعمل على إدماج منظور النوع الاجتماعي في جميع السياسات الوطنية”.



