مقالات

مناوي .. ظلّ الصحراء الطويل

عبد الجليل سليمان

كان يمشي في الرمل، والرملُ يمشي فيه.

كلّما حاول أن يتذكّر الطريق، تذكّر نفسه.

وحين أطلّ على الأفق، لم يجد الفاشر؛

بل وجد وجهه هناك، غبارًا بلا ملامح.

 

سقوط بعيد

كان المساء غائمًا على ساحل بورتسودان، والبحر يبتلع الشمس كما يبتلع الصمت وصيته القديمة. جلس مني أركو مناوي أمام شاشة تلفازٍ مطفأة، في غرفةٍ تتناثر فيها فناجين القهوة والهواتف التي لا تهدأ. في الصالة المجاورة، كان قادة الحركات يتبادلون النظر، بينما تنزلق على شاشاتهم الأخبار العاجلة؛ الفاشر سقطت.

 

لم يكن ذلك مجرد خبرٍ عابر، بل سقوط آخر ورقة من لعبةٍ طالت أكثر مما تحتمل. أدرك مناوي أنه لم يخسر مدينةً فحسب، بل خسر فكرةً ظلّ يفاوض بها نيالا وبورتسودان معًا.

 

صحراء الداخل

وُلد مناوي في قريةٍ نائية من الرمل والريح، هناك حيث لا ظلّ إلا لمن يركض، ولا ماء إلا لمن يقاتل. كانت طفولته حادةً كحد السكين، يتأمل الأفق كمن يراقب فكرةً تخص الله وحده.

 

دخل الحرب صغيرًا، وتعلّم لغة البندقية قبل لغة الخطابة. وعندما اشتدّ ساعده، خرج من عباءة عبد الواحد محمد نور، يحمل جيشًا صغيرًا من الذين صدّقوا حلمه، ليكتب اسمه على أول بندقية تخصه وحده.

 

قصر العابرين

حين وقّع اتفاق أبوجا، عبر بوابة القصر الجمهوري كنجمٍ سياسي، وخرج منها بعد عامين كظلٍّ باهت. كان يتنقل بين تمردٍ ومصالحة، بين خيمةٍ وأخرى، كما لو أن السياسة نزهةٌ طويلة في صحراءٍ بلا ظل.

لم يكن يقاتل لأجل دارفور بقدر ما كان يقاتل ضدّ هزيمته الشخصية.

 

وجوه المرايا

في خطاباته الأخيرة من بورتسودان، كان صوته يتهدج كمن يقرأ مرثيته بيده. يتحدث عن السيادة والكرامة والوطن، بينما كانت عيناه تبحثان في المدى عن جمهورٍ غائب.

لم يعد القائد الذي يهدد الخرطوم، بل شاهدٌ على زوال الحلم الذي صنعه بنفسه. كانت المدينة التي خسرها تبتعد، كأنها تجرّ ظلّه في الرمل.

 

نهاية مؤجلة

ومع ذلك، يظلّ في الرجل شيءٌ من الأسطورة. كأن الرمال تحفظ صوته، وكأن الريح تردده كلما مرّ اسمه في الأخبار. لا هو الذي ربح الصحراء، ولا هو الذي سلم للهزيمة. بقي هناك، في منطقةٍ رمادية بين الانطفاء والحنين، يحدّق في الفراغ كما لو أنه ينتظر معركةً أخرى قد لا تأتي.

 

سيكتب التاريخ عنه ربما؛

“لم يخسر الفاشر وحدها، بل خسر الطريق إليها أيضًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى