
تبدو الصورة في السودان اليوم متناقضة إلى حد مأساوي؛ ففي الوقت الذي تتحدث فيه العواصم الدولية عن هدنة إنسانية تلوح في الأفق، تغرق مدن دارفور في دماء المدنيين. وبينما يتداول الوسط الدبلوماسي أنباءً عن “موافقة مبدئية” من عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو “حميدتي” على وقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر، تنقل المنظمات الإنسانية مشاهد عن جثث تُرى من الفضاء، ومجاعات تلتهم من تبقّى على قيد الحياة.
في واشنطن، تستمر المفاوضات بين وفدي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، برعاية الولايات المتحدة ودول الرباعية — مصر والسعودية والإمارات — التي طرحت مقترح الهدنة. وبحسب مصادر دبلوماسية، فإن الجانبين توصلا إلى اتفاق حول التفاصيل الفنية، لكن العقبة الكبرى تبقى في غياب الإرادة السياسية.

فكل طرف ما زال يراهن على تفوقه العسكري ويطلب مهلة جديدة “للتشاور مع الحلفاء”. هذه العبارة التي تكررت منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عام صارت عنوانًا لعجز الجماعة الدولية عن إقناع الأطراف السودانية بأن الكارثة تجاوزت كل حسابات النفوذ.
من الجانب الأمريكي، يواصل مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس للشؤون الأفريقية، إطلاق التصريحات المتفائلة الحذرة، مؤكدًا أن المفاوضات “في مراحل متقدمة” وأن واشنطن تضغط لتوقيع الهدنة الإنسانية “قبل فوات الأوان”. لكن الواقع على الأرض لا يشبه لغة الدبلوماسية. فبينما تتحرك الملفات ببطء في أروقة الفنادق الأمريكية، تتسارع المآسي في إقليم دارفور، حيث تحولت مدينة الفاشر إلى ما يشبه مقبرة جماعية.

صحيفة “واشنطن بوست” خصصت افتتاحيتها الأخيرة لما وصفته بـ “كارثة الفاشر”، معتبرة أن تجاهل المجتمع الدولي لما يحدث في السودان يرقى إلى تواطؤ أخلاقي. المقال استعاد ذكرى المدينة التي صمدت لأكثر من عام كآخر معاقل الجيش في دارفور، قبل أن تسقط هذا الأسبوع تحت سيطرة قوات الدعم السريع. هناك، حُوصِر نحو 250 ألف مدني يعيشون على الأعشاب وعلف الحيوانات، قبل أن تُرتكب مجزرة داخل مستشفى المدينة راح ضحيتها أكثر من 460 مريضًا وموظفًا.
نقلت الصحيفة شهادات مروّعة عن إعدامات ميدانية وتفاخر قادة ميدانيين بقتل آلاف الأشخاص، فيما أظهرت صور الأقمار الصناعية تجمعات لجثث متناثرة في بقع دم ضخمة. كل ذلك جعل *واشنطن بوست* تسأل بحدة: كيف يصمت العالم أمام مجزرة بهذا الحجم في بلد له موقع استراتيجي على البحر الأحمر ويؤثر في أمن الطاقة والتجارة الدولية؟

لكن النقد الأمريكي لم يقف عند حدود الأخلاق. ففي مقال للكاتب إيشان ثارور، وُجهت سهام اللوم إلى الإدارة الأمريكية نفسها، التي فشلت – بحسبه – في إيجاد “حل بسيط” للحرب، منشغلة بدلاً من ذلك بتفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، إحدى الجهات الممولة الرئيسة للمساعدات الإنسانية في السودان. ورأى ثارور أن الأزمة السودانية لا يمكن اختزالها في صراع داخلي، بل هي شبكة من الأذرع الخارجية المتشابكة: مصر وإيران تدعمان الجيش، والإمارات تمد الدعم السريع بالسلاح رغم نفيها المتكرر، فيما تتداخل أدوار تركيا وروسيا وأوكرانيا على نحو يزيد من تعقيد المشهد.
هذه الصورة المركّبة تعكس مأزقًا مزدوجًا: دبلوماسية عاجزة عن فرض التزامات واضحة، وميدانًا يزداد وحشية يوماً بعد يوم. فبينما تبحث واشنطن عن “آلية رقابة دولية” للهدنة، تحصي منظمات الإغاثة جثث الضحايا وتلاحق الناجين على الطرق الوعرة نحو مناطق أكثر أمانًا.

منظمة أطباء بلا حدود، التي تعمل في مدينة طويلة القريبة من الفاشر، أصدرت بيانًا وصف ما يجري بأنه “مجزرة جماعية على أسس عرقية”. وأشارت إلى أن قوات الدعم السريع تمنع المدنيين من الفرار، بينما تصل موجات الناجين في حالة يرثى لها من الجوع والإصابات البالغة. المنظمة وثّقت استقبال نحو خمسة آلاف شخص خلال الأيام الأخيرة، معظمهم من النساء والأطفال، وأكدت أن 57 في المئة من الأطفال دون الخامسة يعانون من سوء تغذية حادّ شديد.
شهادات الناجين تضيف بعدًا إنسانيًا يفوق كل التصريحات السياسية. فالكثير منهم تحدثوا عن تعذيب واحتجاز مقابل فدية تصل إلى عشرات الملايين من الجنيهات، وعن إعدامات جماعية نفذها المسلحون بدم بارد. تقول نائبة رئيس قسم الطوارئ في المنظمة، ليفيا تامبيليني، إن بعض المصابين الذين وصلوا إلى طويلة يعانون مضاعفات من عمليات جراحية أجريت في ظروف “شبه مستحيلة” في الفاشر، حيث نفدت الإمدادات الطبية منذ أسابيع.

أمام هذه الشهادات المروّعة، يبدو الحديث عن هدنة مؤقتة أشبه بتسكين جرح غائر. فالمجتمع الدولي يكرر الدعوات، والوسطاء يمددون الجداول، لكن المدنيين يموتون قبل أن تكتمل جلسات التفاوض. إن ما يحدث في السودان ليس مجرد حرب بين جيشين، بل انهيار إنساني شامل يختبر ضمير العالم بأسره.
إذا ما توافرت الإرادة السياسية التي يتحدث عنها الوسطاء، فقد تكون الهدنة المقترحة بداية طريق طويل نحو السلام. أما إذا استمر التعنت وتعددت الأيدي التي تحرك البنادق من الخارج، فسيبقى السودان أسيرًا بين توقيع مؤجل في واشنطن ومجازر مفتوحة في دارفور، تتناوب على روايتها الصحف والمنظمات بينما تواصل الأرض نزيفها في صمت.



