
ما سُمّي بالقمة المصغّرة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وخمسة رؤساء أفارقة في البيت الأبيض، كانت لوحة سياسية فاضحة، اختزلت في مشهدٍ واحد قرنًا من احتقار القارة السمراء، ورمزية مُهينة للدولة والسيادة والكرامة.
فالصورة، والجلسة، واللغة بعيدة عن مسمّى قمة… جميعها أقرب ما تكون إلى دعوة مغلقة من مدير لموظفيه الإداريين. بدءًا من شكل الاستقبال الذي لم يحمل أدنى ملامح البروتوكول الرئاسي، إلى هندسة الجلسة التي وُضعت بعناية لإيصال رسالة واحدة: “أنتم لستم نُظراء ولا حُلفاء… أنتم موظفون في انتظار التعليمات”.
– حين يُهان الرئيس بلطف: الغزواني نموذجًا
المشهد الأكثر دلالة – ربما من أكثر المشاهد إيلامًا أيضًا- وقع حين حاول الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني أن يُلقي كلمته بلغة فرنسية مهزوزة، متلعثمة، ومكرّرة. لم يصبر ترامب كثيرًا، فقاطعه بنبرة لا تخلو من استعلاء قائلاً:
“ربما علينا أن نُسرع قليلًا، لدينا جدول مزدحم. لو تذكر اسمك وبلدك فقط، سيكون رائعًا”.
هكذا، ببساطة. كما يُخاطب المعلم تلميذه المرتبك: “اذكر اسمك، واجلس”. لا تكلّف ترامب عناءَ احترام البروتوكول، ولا عناء مجاملةٍ شكلية، بل بدا وكأنه لا يرى في ضيوفه إلا أدوارًا ثانوية في عرض أمريكي متكرر.
المثير؛أن الغزواني، رئيس بلدٍ يُعلن رسميًا أنه “الجمهورية الإسلامية الموريتانية”، قدّم نفسه – باللغة الفرنسية – أمام رئيسٍ لا يعرف الفارق بين داكار ونواكشوط. أي انكسارٍ سياسي هذا الذي يمنع رئيس دولة عربية مسلمة من التحدث بلغته الأم، بلغة شعبه، ويضطر للتقرب بلغة المستعمر السابق؟ وماذا يُبقي من السيادة حين يُجبرك السياق على التخلي عن رموز هويتك حتى في اللحظة التي يُفترض أن تُمثّل فيها أمتك؟
والأدهى، أن يُترك اختيار اللغة الفرنسية هو المُعتمد، بينما نُخبٌ موريتانية بارزة تدعو من نواكشوط إلى نيامي التحرر من الهيمنة الفرنسية وإحياء اللغة العربية، حتى في دُولنا في منطقة الساحل… بينما رئيسهم لا يملك حتى أن يفرض لغته، في قمة يُفترض أنها تمثيل للهوية والسيادة!
وبلغت المهزلة ذروتها مع رئيس ليبيريا، حين علّق ترامب – وكأنه يكتشف شيئًا عجيبًا – على طلاقته في اللغة الإنجليزية بسؤال لا يخلو من جهل عنصري:
“أنت تتحدث الإنجليزية بطلاقة… أين تعلمتها؟”-
سؤال يُظهر جهلًا فادحًا من رئيس دولة يُفترض أنه يعرف أن ليبيريا بحد ذاتها دولة “صُنعت” من قِبل أمريكا، واستُجلب لها الأفارقة المحرّرون من العبودية ليؤسسوا دولة، جعلوا لغتها الرسمية الإنجليزية، وعاصمتها “مونروفيا” تكريمًا لرئيس أمريكي. فأن يتفاجأ ترامب من حديث رئيسها بالإنجليزية، فهذه فضيحة سياسية توازي صدمة أن يسأل ملك بريطانيا رئيس كندا: “من أين تعلّمت الإنجليزية؟”
– صورة القمة… حين يجلس السيد، ويقف الخدم
ثم في قلب المكتب البيضاوي، أتتْ الصورة التي صرخت. رئيس أمريكي يجلس، وخمسة رؤساء أفارقة يقفون خلفه كأنهم حرس شرف أو موظفو استقبال في منتجع رئاسي. وقبعة “اجعل أمريكا عظيمة مجددًا” تتوسط المشهد، بينما تتوارى “أفريقيا” كفكرة، وككرامة، وكشعور بالانتماء.
ولأجل المقارنة فقط – التي قد لا تُعجب البعض – تأمّل كيف استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضيوفه الأفارقة في الكرملين: واقف على الباب، يُصافح، يُصغي، يُعانق، يُشعرهم أن حديثهم مهم، أن وجودهم ليس ديكورًا، وأن روسيا ترى فيهم مستقبلًا استراتيجيًا.
وانظر إلى الصين في قممها مع أفريقيا: تُقيم معارض للثقافات الأفريقية، تُعلن عن منحٍ دراسية، تُقيم العروض الفلكلورية، تجعل الزعيم يقف معهم واقفًا لا جالسًا، تُعاملهم – ولو ظاهريًا – كـ”أصدقاء للقرن الواحد والعشرين”.
طبعًا، الكل يُجامل، والكل يُمثّل. لكن السياسة، كما يعلمنا التاريخ، هي فن الإقناع بالرمز قبل النص. وهذا ما لم يكلّف ترامب نفسه به مع قادة أفريقيا.
– ما لا يقلّ أهمية عن تعالي ترامب، هو طريقة تفاعل القادة الأفارقة أنفسهم مع المشهد. لقد جلسوا في حضرته كأنهم في مقابلة عمل، لا كزعماء دول ذات سيادة. لم يُبدِ أحدهم امتعاضًا، بل جلسوا أو وقفوا بصمتٍ كامل، يُسلّمون بما فرضه السياق الأميركي من دون أن يُدركوا فداحة المشهد، في مضمونه وفي رمزيته. والأسوأ من ذلك جميع مداخلاتهم كانت ” خارج الموضوع” وتحدّثوا كأنّهم مبتدئين لا يفرقون بين ” قمة ثنائيّة ” حيث تتحدث فيها عن بلدك ومشروعكما المتبادل وبين ” قمة جماعية” حيث يجب أن تتحدثوا كجماعة، وتناول موضوع جدول الأعمال فقط الذي يعني الجماعة ككتلة.
– ماذا عن محاولة تفسير الصورة باعتبارها عادية؟!
أما محاولات تبرير الصورة الجماعية المهينة، باعتبارها “مجرد عادة” درج عليها الرجل مع مسؤولين آخرين، فهي مغالطة لا تصمد أمام الفحص.
فترامب، وإن كان قد جلس أمام مسؤولين أميركيين أو حتى بجوار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن تلك المشاهد كانت في سياقات مختلفة تمامًا: سياقات حلفاء مقربين أو موظفين أمريكيين، مشحونة بالرمزية السياسية والمجاملات المتبادلة، تصل إلى حد أن يمسك ترامب بالكرسي لنتنياهو قبل أن يجلس، ويخاطبه بمودة ملفتة تعكس طبيعة العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين، هل فعل ذلك مع قيادات أفريقيا؟. الجواب: لا.
سؤال بسيط: هل كان ليلتقط نفس الصورة، لو كان في حضرته الرئيس الصيني شي جين بينغ؟ أو فلاديمير بوتين؟ أو حتى مع قادة عرب يحظون بتقديره؟ الإجابة بديهية: لا. بل حتى؛ إنّ أي قمة تجمعه بقادة أوروبيين أو آسيويين ذوي وزن، ما كانت لتُلتقط فيها صورة مشابهة بهذه الهيئة الفوقية. ما كان ليفكّر بها أصلاً.
طبعًا، هذه الاستدلالات؛ ليس الغرض من ورائها مقارنة القادة الأفارقة هؤلاء، بزعماء الصين أو روسيا من حيث الثقل السياسي، بل في فهم مغزى الصورة وتبعاتها الرمزية: سمح ترامب لنفسه أن يظهر جالسًا وحوله رؤساء دول أفريقية واقفون وكأنهم في طابور انتظار، غير مدركٍ أنّ الصورة تُعيد إلى الأذهان مشاهد التسلط الاستعماري حين كان الجنرالات الأوروبيون يتعمّدون تصوير الزعماء المحليين وقوفًا خلفهم، لتثبيت سردية التفوق والوصاية.
وإذا أراد البعض التخفيف من وقع المشهد بالتذكير بأن ترامب التُقطت له صور مشابهة مع موظفيه، فإنّ ذلك لا يُعفيه من المسؤولية، ولا يُسقط عنه دلالات التكرار مع القادة الأفارقة تحديدًا. لأنّ إفريقيا، بتاريخها الاستعماري العنيف والازدراء المنهجي، لا تتحمّل رفاهية القبول بمظاهر التحقير الجديد، خاصة حين تأتي من رئيس دولة لطالما تعامل مع القارة باعتبارها هامشًا في السياسة الدولية، ولم يزر أفريقيا ولو لمرة.
– برأيكم، هل تساءلتم لماذا لا توجد صورة مشابهة لترامب مع قادة آخرين من بلدانْ أخرى، باستثناء نتنياهو وموظفي ترامب!؟
بعبارات أخرى، ليست الأفعال بحد ذاتها ما يُدين، بل السياق الذي تُؤدى فيه، والعلاقة بين الفاعل والمفعول عليه.فما يجوز بين القريب، قد يتحول إلى فضيحة مع الغريب. على سبيل المثال؛ المزاح الجسدي بين الأصدقاء المقرّبين: قد يتمازح شابان بضربات خفيفة على الكتف أو حتى تقليد الصوت أو الملامح. لكن إذا فعلها غريب أو رئيس في العمل؟ تتحول فجأة إلى سخرية، وربما إهانة متعمدة.
ولو ضحك أخ على زلّة أخيه؟ عادي. لكن لو فعلها شخص غريب في محفل عام؟ يتحوّل الضحك إلى ازدراء وسخرية.
قصدي مما سبق، أنّ الفعل نفسه لا يُدان غالبًا، بل يُدان السياق الذي يحدث فيه.
فالطفل الذي يلعب عارياً في حضن أبيه، لا يثير الشك ولا الذهول. لكن حين يقترب غريب ويفعل نفس الفعل، نطلق أجراس الخطر.
ولذلك، فإنّ جلوس ترامب في صورة واحدة مع نتنياهو وهو جالس، لا يشبه جلوسه مع رؤساء أفارقة واقفين خلفه. فمع القادة الأفارقة بخصوصياتهم، يُفسّر أنه مشهد طبقي عنصري، يُذكر بصورة إمبراطور يتباهى بحاشيته.
أكرر مرة أخرى، أنّ هناك أفعالٌ لا تُفهم بمعناها المجرد، بل من خلال العَين التي تُشاهدها، والموقع الذي تصدر عنه. طفل ينام عاريًا في حضن أمّه، فعل بريء. لكن طفلًا نائمًا في حضن غريب؟ كارثة.
ولذلك فإنّ تبرير هذه الصورة، أو محاولة تمريرها باعتبارها “أمرًا عاديًا”، هو تنكُّر صارخ لمطالبات النخبة الأفريقية الجديدة في رفض التعامل معها كتوابع أو ديكور في حفلات الاستعلاء السياسي. فالقضية ليست في شكل الجلوس والوقوف، بل في دلالات الهيبة والكرامة السيادية التي فُقدت في لقطة واحدة، وتختزل قرنا من الصور القديمة التي لطالما قاتلت أفريقيا لتجاوزها.
وقوف رؤساء دول أفريقية خلف ترامب الجالس يعني، في لاوعي الجمهور، أنّهم تابعون، لا شركاء. ولهذا بالضبط ما سببّ هذه الضجة، فلو كان الأمر خلاف ذلك، لما اهتم أحد.
الفرصة التي أضاعتها أمريكا
وعلى الجانب الأمريكي، جاءت القمة مثالًا على الوقاحة الاستراتيجية المقنّعة بعبارات الشراكة.
وكانت صورة أمريكا في القمة أقرب إلى استعراض متعالٍ منها إلى لقاء استراتيجي ناضج، كاشفة عن ثلاث زوايا مثيرة للتساؤل حول مدى عدم إدراك واشنطن لتحولات القارة ونخبتها الجديدة.
أولًا، تحت ذريعة تدشين مقاربة جديدة للتعاون مع أفريقيا، تمّ انتقاء خمسة رؤساء من بين أكثر من خمسين قائدًا أفريقيًا، بدعوى انتهاج الولايات المتحدة لسياسة “التركيز على شركاء انتقائيين”. غير أنّ ما تلا ذلك من مشاهد وتصرفات أفرغت اللقاء من أي قيمة دبلوماسية رمزية. فالرئيس الأمريكي لم يُكلّف نفسه حتى بحفظ أسماء الضيوف ولا دولهم، في مقابل حرصه – حين يتعلق الأمر بقادة آسيويين مثل الهند – على النطق بمفردات هندية أو إظهار الاحترام لثقافاتهم. هذا التفاوت يتجاوز تفصيلاً بروتوكوليًا، ليكشف عن خلل في فهم التحولات الجارية داخل أفريقيا، واستمرار واشنطن في التعامل مع القارة بذهنية الوصاية لا الشراكة. والأخطر أنّ الإدارة الأمريكية لا تبدو مدركة لوجود نخبة أفريقية جديدة أكثر وعيًا، قادرة على تفكيك الرموز وقراءة المضامين المبطنة وراء هذا “الانفتاح” الانتقائي، الذي يهدف في جوهره إلى إبعاد القارة عن فلك الصين وروسيا.
ثانيًا، يُفترض أن هذه القمة جاءت كردّ استراتيجي على تنامي النفوذ الصيني والروسي في أفريقيا، عبر استقطاب قادة دول ساحلية على البحر؛ ذات ثقل جغرافي أو رمزية خطابية موالية للغرب. لكن المفارقة المؤلمة كانت في الشكل والمضمون. فمن جهة، استُقبل القادة الأفارقة بفتور، دون أدنى مظاهر الاحترام التي تقتضيها الدبلوماسية الرفيعة. ومن جهة أخرى، إذا قارنا ذلك بما تفعله موسكو وبكين، نجد فارقًا صارخًا: بوتين يستقبل القادة الأفارقة في الكرملين، ينصت إليهم، يعانقهم، ويمنحهم شعورًا بأنهم شركاء ذوو شأن. والصين تذهب أبعد من ذلك: تُقيم معارض للثقافات والتقاليد الأفريقية، تعرض أزياءهم، وتروّج لفكرة أنّهم مكوّن ثقافي مهم في الحضور الصيني العالمي. قد يكون – بل مؤكد- أنّ كل ذلك مظهرًا دبلوماسيًا سطحيًا، لكنه في “علم الرموز السياسية” يُعادل رأس مال رمزي لا يُستهان به. التظاهر بالاحترام في السياسة ليس نفاقًا، بقدر ما هو ضرورة. ومن لا يفهم تلك اللغة، فلا موقع له في العالم المعولم الذي يُدار بالرموز والهيبة والصورة الجماعية.
ثالثًا، من المثير للسخرية أنّ الدول المدعوة إلى القمة هي نفسها التي كانت حتى وقت قريب على قوائم الحظر الأمريكي، سواء في السفر أو التأشيرات لطلابها أو حتى المساعدات الإنمائية. ثم فجأة يُنتظر منها أن تتخلى عن الصين، فقط لأنّ واشنطن قررت أن الوقت قد حان للتقارب. في المقابل، تواصل بكين توسيع نفوذها عبر رفع الرسوم الجمركية عن الواردات الأفريقية، وتقديم منح أكاديمية سخية، ونقل التكنولوجيا، وبناء مشاريع البنى التحتية في مجالات النقل والطاقة والإسكان بأسعار تنافسية وشروط ميسّرة. والنتيجة؟ أنّ الولايات المتحدة تأتي متأخرة، دون استراتيجية متكاملة، وتنتظر من أفريقيا أن تختارها على حساب شريك استثمر فيها لعقود.
وعليه، فإنّ السؤال الجوهري اليوم هو: كيف يمكن لإدارة ترامب، التي لم تُظهر أيّ نية جادة لفهم رمزية أفريقيا المعاصرة واحترام خصوصيتها، ولم تحترم حتى الحد الأدنى من اللباقة السياسية في قمة يُفترض أن تكون تأسيسية، أن تقنع الأفارقة بفضّ تحالفاتهم مع شركاء يرون فيهم قيمة، ولو كانت مجرّد “استثمار ناعم”؟
ربما يُختصر الجواب كله في مشهد ترامب وهو يجلس، بينما يقف القادة الأفارقة خلفه، في صورة جماعية ستبقى عالقة في الذاكرة كدليل رمزي على فجوة الوعي الأمريكي تجاه قارة تتغيّر.
ختامًا، حين يجلس ترامب مرتاحًا مبتسمًا في صورة مع الرؤساء الأفارقة الواقفين، كل ما نراه نحن هو احتقارًا رمزيًا.
الجلوس فعل عادي، لكن أن تجلس أمام ضيوفك من رؤساء أفريقيا، أن تقطع حديث أحدهم لأنه “لا يتحدث كما ينبغي”، أو “لا يُتقن لغة المستعمر كما يجب”؟
أن تُبدي دهشتك من نطق رئيس بلغة لم تكلف نفسك قراءة تاريخه فيها؟ كلها – في نظرنا- مواقف مشبعة بالاستعلاء الاستعماري المتأصل، ولن تُنسى أبدًا، وبالتالي هي قمة لن تحقق أهدافها أبدًا.