
غالباً ما يرتبط اللون الأبيض بالنقاء والبراءة والصفاء والسلام، وأحياناً ينظر إليه كرمز للفراغ، أو الصفحة البيضاء قبل الخلق أو الفعل، مما يربطه بالعدم أو الفراغ فلسفياً حين تمتد دلالاته إلى مجالات أخرى.
نفسياً، يمنح اللون الأبيض شعوراً بالاتساع، الراحة والهدوء، وأحياناً يشعر البعض بالعزلة والانفصال أو التعالي. وفي الفن التشكيلي يلجأ الفنان إلى اللون الأبيض كوسيلة للتعبير عن المطلق أو التجريد وللتخلص من التفاصيل، والرجوع للجوهر عند الرسامين الحداثيين.
من منظور جدلي، لا يفهم الأبيض إلا بوجود نقيضه الأسود، وهنا ندخل في مفاهيم الفلسفة: الخير مقابل الشر، النور مقابل الظلام.
كل هذه الدلالات والرمزية في اللون تبدو منطقية ومقبولة غير بعيدة عن سياقاتها، بيد أن اللون يتخلى عن مدلولاته تلك ليذهب إلى أبعد من ذلك في السياقات السياسية والاجتماعية، اللون هنا يعني السلطة والسيطرة، أو التفوق في بعض الأيديولوجيات العنصرية، أو النقاء العِرقي، ما يكشف عن إساءة استخدام رمزية اللون.
ما يدعو للتساؤل في هذا الصدد عن معنى اهتمام الأوربيين والأمريكان في احتجاز رهائن من البيض مثلاً في أي مكان العالم، أمام حدث من هذا القبيل تنشغل الحكومات ووسائل الاتصال والرأي العام في متابعة ما ستسفر عنه عملية الاحتجاز، وتتعالى أصوات الاحتجاجات والمناشدات انتصاراً لقيمة الإنسان الأبيض.
هذا الإعلام لا يهتم بمصير آلاف القتلى والمشردين من أبناء غزة وجنوب لبنان، وعمليات الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني أو شعوب العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. أو تلك المآسي التي تغيب تفاصيلها في خضم الأحداث الكئيبة، هذا ينقلنا إلى القرارات الكبرى والخطيرة التي تتجاهل الانعكاسات السلبية على مصائر الأفراد، ربما لو كان المحتجزون من لون آخر ما كان الأمر يثير اهتمام البيض واختلفت النتائج وردود الفعل. حتى خلال أرقام الضحايا، لا تعني مئات الآلاف من القتلى أمام عشرات فقط من الطرف الآخر. هذا كله لا يهم، فليكونوا عرباً، أو أفارقة، أو هنوداً، ماذا يهم؟
الحق أن الغرب الأوروبي والأمريكي عنصري في جوهره، وعلينا أن ندرك هذه الحقيقة. إن دلالة لفظ «الإنسان» تعنيهم هم، بينما يدفعون الشعوب والقوميات الأخرى خارج الدائرة. البيض يعني الجنس الأبيض، يعني أبناء الغرب تحديداً.
ولأن الأبيض هو الأقوى اقتصادياً وتكنولوجياً، تحولت مقاييسه إلى أسس يحكم بها العالم. يتوجه الجيش الروسي بأوامر من غورباتشوف ليقمع أهل أذربيجان وأوزبكستان وغيرهما من الجمهوريات التي يسكنها مواطنون إما سمر أو صفر أو أقل بياضاً. ويسقط مئات القتلى والجرحى فلا يتحرك الأبيض جداً، أي الغرب، كما أن غورباتشوف الذي يتصور أنه أبيض يحاول جاهداً أن يجعل من الاتحاد السوفييتي تابعاً للسيد الأبيض! هل هي صدفة أن اسم مقر الرئيس الأمريكي، الأقوى في عالم اليوم، هو البيت الأبيض.
مؤخراً استقبل فيه الرئيس الأمريكي ترامب نظيره رئيس جنوب أفريقيا. وفي مشهد مشحون بالتوتر، وجّه ترامب اتهامات مثيرة للجدل بشأن قتل المزارعين البيض في جنوب أفريقيا، وعرض فيها صوراً ومقاطع فيديو لدفن البيض، تبين أنها لم تقع في جنوب أفريقيا، إنما في جمهورية الكونغو.
عندنا في العراق بناية كئيبة تسمى «القصر الأبيض» بناها الملوك قصراً للضيافة عام 1934، تعددت وظائفها، وتبدلت استخداماتها وفقاً للتبدلات الدراماتيكية في الوضع السياسي ونظام الحكم في العراق. تحولت إلى بناية تابعة لأمانة العاصمة بعد سقوط النظام الملكي، وفي أواخر الستينيات صارت متحفاً عسكرياً تابعاً لوزارة الدفاع، وفي تسعينيات القرن الماضي تحولت إلى متحف للفنانين الرواد ومنتدى ثقافي.
ومن المفارقات المثيرة أن القصر الأبيض استضاف عدداً من الملوك والرؤساء العرب في فترات مختلفة، كان آخرهم الرئيس اليمني عبد الله السلّال عام 1967 الذي تم إبلاغه من قبل وزير الداخلية العراقي آنذاك شامل السامرائي في العهد العارفي الثاني، أن انقلاباً عسكرياً أطاح به في صنعاء. فما كان من السلّال إلا البقاء في القصر الأبيض لمدة سنتين، لغاية استقرار الوضع في بلاده.
في التصوف فهم مختلف للألوان والأرقام. يقولون إن الأبيض أصل كل الألوان، هل هذا صحيح وفق قاعدة الطيف الشمسي؟ طبعاً لا، لأن الأبيض لا يعدّ ضمن قائمة الألوان، كذلك الأسود يظل أصلاً لكل الألوان، وربما كان الأقدم، لأن النور ينبعث من العتمة، فالسواد أصل، وينبغي أن ندرك أن الأبيض لا يمكن له وجود بصفته إلا بوجود الأسود، والعكس صحيح، وبدرجات اللونين تتكامل الإنسانية.
هذا التنوع بالدلالات المتناقضة يمنح الأبيض بعداً فلسفياً آخر، وهو ما أدركه الشرق بثقافاته، بحضاراته، بعمقه الإنساني، وهذا ما لا يريد الغرب الأبيض جداً أن يقتنع به. لست عنصرياً ولن أكون، ولا أدعو إلى المواجهة بمنطقهم، ولكنني أقول بالتصدي لأية محاولة لمحو هويتنا حتى يفيقوا ويدركوا أن الإنسانية لا يمكن أن تكتمل إلا بامتزاج كل الألوان.
كاتب عراقي (*)