
“كل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً وإما أن يكونا جميعاً كاذبين وإما أن يكونا جميعاً يؤديان إلى معنى واحد وهو الحقيقة، فإذا تحقق في البحث وأنعم في النظر، ظهر الاتفاق وانتهى الاختلاف”
ابن الهيثم.
أثار موضوع الفرق بين الاستقلال والتحرير نقاشاً جانبياً حول مفهوم التغيير لم يصل إلى منصات التواصل الاجتماعي، وكان من الضروري نقله، أو جزء منه، على الأقل إلى المجال العام بحيث يمكن توسعته وإشباعه بالنقاش خدمة للكاتب والقارئ معاً.
أكثر النقاط إثارة للجدل كانت عبارة أساء الكثيرون تفسيرها وهي وصفي لأعضاء المقاومة بأنهم “طلاب سلطة”، وهي عبارة لا أقصد منها لا التقليل ولا التحقير وذلك للأسباب التالية.
هذا التوصيف مقصود ويمكن تبريره ضمن عملية التغيير الشامل التي تحدثت عنها.
فالمعروف أن الصراع السياسي بين التنظيمات والأحزاب هدفه الوحيد دوماً هو السلطة، وإلا زالت عنه صفة السياسي. وهذا الصراع إما يكون عنيفاً دامياً (كما هو الأمر في مجمل صراعاتنا السياسية) أو سلمياً ديموقراطياً بين برامج حزبية بما يسمح بصبغ خارطة البلاد بأحد اللونين الأحمر أو الأزرق كما الحال في معظم انتخابات العالم السلمية.
أي كان الصراع حول السلطة فهو دوماً سياسياً، يتوخى الوصول إلى السلطة وسدة الحكم باعتبارها أداة التغيير المجتمعي الأكثر فعالية، كيف لا والسياسي في سدة السلطة يمكنه أن يدفع بك إلى الموت كجندي في حرب ما، أو ينكد حياتك المعيشية بالضرائب أو سوء الخدمات، أو حتى التأثير على حياتك بشكل جذري عبر السياسيات الصحية والتعليمية والسكنية. كل هذا يجعل السلطة السياسية أداة سحرية يحلم كل سياسي بالإمساك بها خاصة لاقترانها كذلك بالثروة عبر التوليد المتبادل: فالسلطة تولد الثروة والثروة تولد السلطة في متوالية يشوبها الفساد في الغالب الأعم.
وفي حالتنا الارترية الخاصة وعند منح الصراع السياسي الأولوية فإننا نحدد “الهدف” مسبقاً وهو الوصول إلى السلطة؛ وهنا يتضح مدلول توصيف “طلاب سلطة” بمعنى تقديم الصراع السياسي على ما عداه بغية الوصول إلى السلطة.
والتغيير الشامل الذي نقصده يتجاوز الصراع على السلطة ليركز على الصراع على الشرعية، وهو المفهوم الذي يربط الحكم كله وليس السلطة فقط بشروط المقبولية والطاعة ليتجاوز (حدث) إسقاط الديكتاتور إلى ما وراءه وهو منع تكرار ظاهرة الاستبداد في البلاد. وقد يقول قائل أن مفهوم الشرعية ولارتباطه كذلك بالسلطة هو مفهوم سياسي أيضاً. نعم، هو مفهوم سياسي، ولكنه قانوني ومجتمعي بقدر أكبر. فالجانب القانوني للشرعية يحدد مدى شرعية الحاكم ووجوب طاعته والخروج عليه في حال استبداده بالحكم. أما جانب الشرعية المجتمعي قائم على مفهوم (التراضي) حول الحكم أو ما يشار إليه عادة بالعقد الاجتماعي.
فبينما يكون الصراع السياسي عبارة عن مجموعة أحداث تؤدي إلى الحدث الأكبر والأهم وهو الوصول إلى السلطة؛ يكون التغيير الشامل (والمتضمن للتغيير السياسي) هو عملية مستمرة، كما أسلفنا ذكره من قبل.
فالصراع السياسي في ارتريا، مثل سائر بقاع الدنيا، كان ولا يزال يهدف إلى الوصول إلى السلطة عبر تأسيس سلطة بديلة (استبدال السلطة الاستعمارية بسلطة وطنية، مثلاً)، وكان من الطبيعي أن تصب كل الموارد نحو تحقيق هذا الهدف الأوحد، بناء على ذلك تم (إرجاء) وتأخير كل عناصر التغيير الأخرى لمرحلة ما بعد الوصول إلى السلطة.
فإذا أردنا -على سبيل المثال – إحداث تغيير في التشريعات والسياسات القانونية أو الجوانب الإدارية للحكم المستقبلي للبلاد أو حتى السياسة الخارجية، فعلينا أولاً وحسب تكتيكات واستراتيجيات الصراع السياسي أن (نرجئ) كل ذلك لمرحلة ما بعد الاستيلاء على السلطة، تماماً كما فعلنا قبل الاستقلال بالتركيز على الاستيلاء على السلطة والشروع بعدها في تنفيذ البرامج والخطط (وهو ما لم يحدث بعد الاستقلال).
والسبب الذي يبرر به هذا الإرجاء هو القناعة بأن التغيير السياسي (الاستيلاء على السلطة تحديداً) سوف يضمن وبصورة (تلقائية) إمكانية إحداث كل التغييرات الأخرى.
إن تقبل وتبني مفهوم التغيير الشامل (الحاوي للتغيير السياسي) إضافة إلى يجنب تكرار مزالق الماضي، فإنه في نفس الوقت يلغي عملية الإرجاء والتسويف لما بعد استلام السلطة. أي أن التغيير الشامل هو تغيير آني وحاضر وممرحل؛ بينما التغيير السياسي (حدث) قيد الانتظار وفي حالتنا الارترية يمكن تقديم نموذجين يصلحان للتعبير عن جزء من هذا التغيير الشامل.
على الصعيد القانوني:
على هذا الصعيد وبدلاً من انتظار استلام وزارة العدل والمحاكم والمجالس التشريعية، يمكن ومنذ هذه اللحظة لكل القضاة والمحامين والاكاديميين العمل على وضع القوانين والتشريعات (البديلة) ومسودات القوانين الكبرى كالدستور والمرحلة الانتقالية ومسودات تشريعات الأراضي والجنسية وغيرها، ووضع تشريعات وآليات العدالة الانتقالية وتوثيق الجرائم والانتهاكات والعمل مع المنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية من أجل توثيق أحوال ضحايا الاستبداد نصرة للمظلومين وأسرهم وهذا الواجب القانوني برمته لا يمكن تأخيره لمرحلة ما بعد الاستيلاء على السلطة.
فهل سمعنا (في غمرة سعينا وراء التغيير السياسي) عن مؤتمر وطني جامع للكفاءات القانونية الارترية لمعالجة هذه المسائل خلال الثلاثين عاماً الماضية؟
رغم أن التغيير في الجانب القانوني والعدلي يدعم التغيير السياسي.
الناحية الإدارية:
وليس المقصود بهذا الجانب القفز والجلوس على كرسي وزارة الحكومات المحلية في العاصمة وفروعها في الأقاليم. المقصود هو السياسات والخطط الإدارية المتعلقة بالتقسيم الإداري للبلاد ونوع الحكم ودراسة عوائق الإحصاء السكاني (لم يتم في ارتريا أي إحصاء سكاني في الثلاثة العقود الماضية).
ويرتبط بالمسائل الإدارية مسألة مهمة وهي مسألة البيروقراطية المديرة لجهاز الدولة بشقيها (الكفاءات والمؤسسات). فالمعروف أن ارتريا لم ترث بيروقراطية من الإدارات الاستعمارية البيضاء السابقة، أما اثيوبيا فلقد كانت تدير ارتريا “كمحافظة” رئاسة مؤسساتها في أديس ابابا وفروعها في اسمرا وفروع الفروع في الأقاليم. وعندما استلمت الجبهة الشعبية البلاد استلمت جهازاً إدارياً يخص محافظة وليس دولة. فما الذي يمنع الإداريون ومخططو السياسية العامة الارتريون اليوم من وضع تصوري إداري بديل لإدارة البلاد؟ (الجواب هو في ظني أن الكفاءات نفسها غرقت في بحر النشاط التنظيمي السياسي ونست واجبها المهني المنفصل) مؤجلة مهامها لمرحلة ما بعد استلام السلطة السياسية.
هذان المثالان (ويمكن قياس نواح أخرى عليها) يدلان على مساوئ تقديم الصراع السياسي على كل ما عداه بالتركيز على المشكلة السياسية دون سائر المشكلات وذلك لارتباطها بالعصا السحرية التي ذكرناها.
وهذا يدفعنا إلى السؤال هل أدت تجربة استلام السلطة السابقة (الاستقلال وبناء السلطة الوطنية) في إرتريا إلى حل مشاكل ارتريا؟
يشبه التغيير الشامل ربط عدة أحصنة بعربة البلاد، بينما يشبه التغيير السياسي ربط حصان واحد بالعربة فمتى كبا أو تعثر هذا الجواد انقلبت عربة الوطن بما حملت.
إن حصر كل الجهود في العمل السياسي وتهميش كل الفعاليات الأخرى يخل بالبناء الاجتماعي البديل. لماذا يكون اتحاد الكتاب والصحفيين (الذين هم ضمير الأمة) فرعاً من التنظيم السياسي بدلاً من أن يكون منصة مستقلة وحرة تساءل السياسي وخياراته وتدلي بدلوها في طبيعة الصراع مآلاته.
أن تجربة التسلط السياسي الراهن (بكل محلقاتها السالبة) درس كاف وقيم بضرورة عدم تكرار الطغيان في البلاد وذلك عبر تقوية المجتمع بحيث يكون بيئة طاردة لكل ميكروبات الاستبداد المحتملة وأن تكون السلطة السياسية مسورة بسور التراضي الاجتماعي وليست مؤسسة (فوق المجتمع) تملي عليه حياته وخياراته.
التغيير الشامل الشاق والوعر يضع مسألة استلام السلطة (كواحد) من أهدافه الكبرى وليس هو الهدف الأسمى الذي تتقزم مقابله الأهداف والغايات السامية الأخرى.
وفي الأخير قد يرد سؤال لا بد منه: “لماذا هذا التغيير الشامل المتضمن للتغيير السياسي من أساسه؟
والإجابة هي أن ثلاثة عقود من الاستبداد الخانق لم تنتج (أزمة سياسية) فقط، بل فرخت أزمات مجتمعية تعد الأزمة السياسية أحد أوجهها البارزة ولكن ليست الأزمة الأوحد؛ لذلك يجب أن تكون المعالجة بقدر (شمولية) الأضرار التي الحقها الاستبداد بالبلاد والمواطنين وهو ضرر يتجاوز الوجه السياسي بكثير.
(*) كاتب وصحفي ودبلوماسي اريتري