
تتكشّف ملامح نمط مقلق في القارة الإفريقية، يتمثل في استخدام القضاء كأداة لقمع الصحفيين وإسكات أصواتهم، وهو ما أبرزه بشكل صارخ قضيتان بارزتان هذا الأسبوع، تكشفان كيف تحوّلت الأنظمة القضائية إلى وسيلة لمعاقبة المراسلين على مجرد قيامهم بعملهم.
في زيمبابوي، لا تزال الصحفية المخضرمة فيث زابا محتجزة في سجن شيكوربي سيئ السمعة، حيث تُحتجز إلى جانب مجرمين خطرين، بعد أن اعتُقلت بسبب عمود ساخر. وفي الجزائر، حُكم على الصحفي الرياضي الفرنسي كريستوف جليز بالسجن سبع سنوات، لمجرد إجرائه مقابلة مع رئيس نادٍ لكرة القدم.
وقد أثارت القضيتان موجة غضب واسعة في أنحاء القارة، حيث أجمعت منظمات إعلامية إفريقية ودولية على أن “الصحافة ليست جريمة”.
زابا، رئيسة تحرير صحيفة Zimbabwe Independent، تم اعتقالها يوم الإثنين بتهمة “تقويض سلطة الرئيس”، بسبب عمود ساخر من سلسلة “Muckraker”، ورد فيه وصف للرئيس إيمرسون منانغاغوا بأنه يقود “دولة مافيا”.
وعلى الرغم من تدهور حالتها الصحية، أمر القضاء بإيداعها في سجن شيكوربي، المعروف بظروفه القاسية واحتضانه لعتاة المجرمين. وقد وصف كثيرون هذا الإجراء بأنه عقوبة متعمدة ورسالة تخويف موجهة إلى الوسط الصحفي.
وقال دوميساني موليا، رئيس منتدى محرري زيمبابوي الوطني:
“هذا ليس عدلاً، بل إرهاب ممنهج ضد الصحفيين. وضع فيث في سجن شيكوربي وهي مريضة بشدة هو عمل قاسٍ ومتعمَّد.”
منتدى محرري إفريقيا الجنوبية (SAEF) وصف الاعتقال بأنه “مروع”، محذراً من أنه يمثل سابقة خطيرة في المنطقة، وأضاف: *”حين تتحول المحاكم إلى أدوات قمع بدلاً من أن تكون منارات عدالة، فإن الديمقراطية برمتها تصبح مهددة.”
الجزائر: سبع سنوات سجن مقابل مقابلة رياضية
وفي الجزائر، بلغ تسليح القضاء ذروته، عندما أصدرت محكمة في 29 يونيو حكماً بالسجن سبع سنوات ضد الصحفي الفرنسي كريستوف جليز، بتهمة “تمجيد الإرهاب” و”حيازة منشورات دعائية تضر بالمصلحة الوطنية”.
تعود القضية إلى مقابلة أجراها جليز، وهو صحفي مستقل يكتب في مجلتي So Foot وSociety الفرنسيتين، مع رئيس نادي “شبيبة القبائل”، والذي تقول السلطات إنه على صلة بحركة الحكم الذاتي في منطقة القبائل المعارضة للنظام.
وقد تم اعتقال جليز في 28 مايو 2024 بمدينة تيزي وزو، بعد أن سافر إلى الجزائر لتغطية شؤون النادي الكروي العريق.
واعتبرت سارة قداح، مديرة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في لجنة حماية الصحفيين (CPJ):
“الحكم على صحفي بالسجن سبع سنوات بسبب مقابلة يؤكد عداء الحكومة العميق لحرية الصحافة. إنها ملاحقة قضائية متنكرة في ثوب القانون.”
اتجاه مقلق في عموم القارة
تشير هذه الحالات إلى نمط متصاعد في إفريقيا، حيث تستخدم الأنظمة الاستبدادية القضاء كواجهة شرعية لانتهاك حرية الصحافة. فبدلاً من الرقابة الصريحة التي كانت سائدة في الماضي، بات القمع يمر عبر قنوات قانونية توفر مظهرًا زائفًا للعدالة، بينما تؤدي نفس الوظيفة: تكميم الأفواه.
في زيمبابوي وحدها، تعرّض الصحفي البارز هوبويل تشينونو لعدة اعتقالات بين 2020 و2021، بينما قضى الصحفي بليسد ملانغا 73 يومًا في الحجز مطلع هذا العام. وفي كل حالة، كانت التهم مرتبطة بممارسات صحفية عادية.
تقول منظمات الدفاع عن حرية الإعلام إن هذه “الشرعنة القضائية” للقمع خطيرة بشكل خاص، لأنها تقوّض ثقة الجمهور في استقلالية القضاء، وتحول المحاكم إلى أدوات للاضطهاد بدلاً من كونها حامية للحقوق الدستورية.
حملة عالمية: الصحافة ليست جريمة
وقد ألهمت قضيتا زابا وجليز انطلاقة جديدة لحملة عالمية للدفاع عن حرية الصحافة، تحت شعار: “الصحافة ليست جريمة!”. وقد عبّرت مؤسسات إعلامية دولية ونقابات صحفيين عن تضامنها مع الصحفيين المعتقلين، مطالبة بالإفراج الفوري عنهما.
وأكدت هذه الحملة أن كتابة المقالات الساخرة، وإجراء المقابلات، ومساءلة السلطة، هي أنشطة صحفية محمية بالقانون الدولي، ولا يجوز تجريمها.
وفي بيان مشترك، قالت منظمات إفريقية معنية بحرية الصحافة:
“حين تصبح الأسئلة إرهاباً، والسخرية فتنة، نكون قد دخلنا مرحلة مظلمة في تاريخ حرية الإعلام.”
قمة “سادك” المقبلة: اختبار حقيقي للقيادة
تأتي هذه التطورات قبل أسابيع من انعقاد قمة الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي (SADC) في مدغشقر، ما يضع زيمبابوي تحت أنظار إقليمية محرجة. وقد دعا منتدى محرري إفريقيا الجنوبية إلى إدراج قضايا حرية الصحافة على جدول أعمال القمة، وحثّ الدول الديمقراطية في الإقليم على الضغط العلني على زيمبابوي والجزائر لإنهاء ممارسات “الاضطهاد القضائي”.
وقال المنتدى:
“هذه لحظة حاسمة… هل ستقف القيادات الإقليمية إلى جانب حرية الصحافة، أم ستصمت بينما تتحول المحاكم إلى أدوات قمع؟”
ضغوط دبلوماسية دولية
وصفت وزارة الخارجية الفرنسية الحكم على جليز بأنه “قاسٍ”، وطالبت بالوصول القنصلي إليه. كما أعربت كل من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، عن قلقها إزاء تصاعد استخدام المحاكم لقمع الصحفيين، إلا أن منظمات حقوقية تقول إن القلق وحده لا يكفي، وتدعو إلى عقوبات ملموسة وردع دبلوماسي فعلي.
يقول أحد المحللين الإعلاميين في إفريقيا، رفض ذكر اسمه:
“كل صحفي يرى فيث زابا في سجن شيكوربي أو يتابع الحكم على كريستوف جليز يفهم الرسالة: القضاء لم يعد حكماً نزيهاً، بل صار سلاحاً ضد الصحافة.”
ومع تنامي حركة “الصحافة ليست جريمة” في إفريقيا وخارجها، أصبحت قضيتي زابا وجليز رمزين قويين لنضال أوسع من أجل حرية التعبير واستقلالية القضاء في القارة.
العالم يُراقب ليرى: هل ستنتصر العدالة، أم سيبقى القضاء أداة في يد المستبدين لإخماد صوت الحقيقة؟.