مقالات

جبريل : الماشي على ظلّه

عبد الجليل سليمان 

من قرية “الطِّينة” التي تنام على خاصرة تشاد، إلى قاعات اليابان حيث تُطبخ النظريات على نار الكانجي، ومن خنادق السلاح مع شقيقه خليل، إلى صدارة وزارة المالية حيث يُشرف على عجوز الوطن ( الجنيه) وسعر صرفه — هذه سيرة جبريل إبراهيم، كما لم تُكتب من قبل. 

سيرة رجلٍ مشى على حدّين: الحلم والسلاح، الظلّ والنفوذ، فصار مزيجاً من الواقعية والسحر.

ميلاد الغبار

وُلد جبريل في ليلةٍ نسيها القمر، في الطِّينة، حيث تمضي القرى على أطراف الريح كأنها قصائد لم تُكتب بعد. حين فتح عينيه، قيل إن الرمال همست: هذا الولد سيكسر الموازين، لكنّه لم يبتسم كثيرًا. لم يصرخ عند ولادته، فقط رمش كمن يرى مصيرًا لا يشبه الآخرين.

كبر تحت سقفٍ من الحطب وقلبٍ مشتعِل بالتساؤلات. حفظ أسماء الشهداء قبل أن يحفظ أسماء القرى. كان يتعلّم من الريح، ومن أمه، ومن صمت والده الذي لا ينطق إلا إذا انفجرت السماء.

دروب الإخوان

في مدارس الفاشر والخرطوم، صار للفتى خيالٌ له أنياب. وجد نفسه بين منشورات الحركة الإسلامية، لا طلبًا للسياسة، بل لأن الفقر كان يُشبه الجريمة، والحركة كانت تُوهم الفقراء بالنجاة. صار يعرف الفرق بين الإيمان والانضباط، وبين الحلم والبرنامج الانتخابي.

يابان الحلم

بعيدًا عن هدير السيارات في الخرطوم، حلّق في طائرة تقلّه إلى اليابان. لم يكن يعرف اليابانية، لكنه كان يعرف شيئًا أعمق: أن بعض المدن لا تحتاج للغة كي تُشبهك.

في جامعة “ميجي”، كتب دكتوراه عن العدالة الاقتصادية بلغة لا تفهمها أمه، لكنها كانت تصدّق كل ما يكتبه. كان يعدّ الأرقام كما يُعدّ الرهبان حبات المسبحة. كان وحيدًا، لكنّ داخله كان يعجّ بمنفى أكبر.

خليل والسلاح

عاد، فإذا بأخيه خليل يُقاتل، فقاتل معه. السلاح لم يكن هواية، بل ردًّا على قسوةٍ قديمة. ثم سقط خليل برصاص نفس الجماعة التي منحتهم الأمل يوماً. 

جبريل لم ينهَر، فقط وضع خاتم أخيه في جيبه وقال: من لا يموت بالسيف، قد يموت بالسكوت.

“الطلقة تقتل والصمت يقتل أيضاً”

جوبا والذهب

في جوبا، كتب على ورقة السلام: العدالة أولًا. لكنّه كان يعلم أن السلام هشّ كعصفورٍ في قفص البيروقراطية. عاد إلى الخرطوم، ودخل وزارة المالية كمن يدخل مقامًا صوفيًا: بخفة، ودهاء، وصمت طويل. صار اسمه مرادفًا للدولار، وللعجز، وللسؤال المتكرر: إلى أين يذهب المال؟

انقلاب وابتسامة

في انقلاب أكتوبر، لم يُصدر بيانًا. فقط جلس في مكتبه، وأمسك قلمًا، وبدأ يوقّع على الأشياء كأنّه لن يترك شيئًا خلفه. 

حين اندلعت الحرب، وقف في المنتصف، ثم مالت كفّته نحو الجيش. لا لأن الجيش وطن، بل لأنه على الأقل، واقع.

معطف خليل

لا يخلع جبريل معطفه حتى في حر بورتسودان. يقول المقربون إنه يخفي في جيبه خاتم خليل، وصورة لعجوزٍ ماتت دون كهرباء. يحتكر الوزارة كما يحتكر الذاكرة. 

يُوقّع على القروض كما يوقّع العشّاق على رسائلهم الأخيرة.

ابتسامة النهايات

اليوم، حين يخرج من مكتبه فجراً، لا أحد يوقفه. لا لأنّ الحراسة غائبة، بل لأنّ الظلّ يمشي قبله. يبتسم، ويقول للكاميرا: نحن على الطريق الصحيح.

ولا أحد يجرؤ أن يسأله:

– هل تعرف الطريق حقًا؟

– أم أنك فقط تتقن المشي على الحواف؟

جبريل ليس وزيرًا. إنه سيرةٌ بأظافر، سيرةٌ تدخّن الصمت، وتوقّع الموازنات بالحبر الياباني والدم الدارفوري. لا يُمكن الوثوق به، ولا يُمكن الاستغناء عنه. إنه الذي مشى على ظلّه، ولم يسقط.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى