مقالات

غوردون التذكارية : من مدرسةٍ استعماريةٍ إلى صرحٍ وطنيٍّ

عبد الجليل سليمان

تأسَّست كليةُ غوردون التذكارية في عهد الحاكم العام للسودان ونجت باشا (1899 – 1916)، مشروعاً تعليمياً يخلِّد ذكرى الجنرال البريطاني تشارلز جورج غوردون الذي قُتل في الخرطوم سنة 1885. 

جاء القرار بعد إعادة احتلال السودان، حين قادت الصحافة اللندنية واللورد كتشنر حملةَ تبرعاتٍ شعبية جمعت أكثر من مئة ألف جنيه إسترليني في غضون ستة أسابيع. وُضع حجر الأساس سنة 1899، وافتُتحت الكلية رسمياً في 8 نوفمبر 1902 باسم Gordon Memorial College، فكانت أولَ نواةٍ للتعليم الحديث في البلاد، وذراعاً لتكوين طبقةٍ وسطى سودانية تتولى وظائف الإدارة والخدمات.

مدرسةٌ أولية ومعهدٌ صناعي (1902 – 1905)

اقتصر المنهاج عند النشأة على تأهيل معلّمي المدارس الابتدائية، وتدريب حرفيين في النجارة والحدادة والطباعة والرسم الهندسي، مع مركزٍ صغير لإعداد كتبة الدواوين. كان القَبول يتطلّب اجتياز الابتدائية العليا، وتراوحت الدراسة بين سنتين وثلاث.

من التعليم الأوسط إلى الثانوي المتخصِّص (1906 – 1924)

ابتداءً من 1905 أُضيفت فصولٌ بمستوى التعليم الأوسط لتخريج مسّاحين ومحاسبين وفنيي هندسة، وأُطلقت 1906 دورةٌ رباعية لإعداد معلّمي المدارس الحكومية. وبحلول 1913 تخطّى عدد الطلاب خمسمئة، وافتُتحت مختبرات علمية بتمويلٍ من مؤسسة هنري ولكم. ومع اتساع احتياجات الإدارة الاستعمارية، باتت الكلية بحلول 1916 تُعامَل فعلياً كمؤسسةٍ ثانوية. 

أمّا أحداث ثورة 1924، التي شارك فيها بعض الخريجين، فأفضت إلى إعادة هيكلةٍ قضت بقصرِ الكلية على المسارات المدنية وإلغاء جناحها العسكري.

المدرسة العسكرية في غوردون (1903 – 1924)

في قلب الحرم أُنشئت المدرسة العسكرية بالخرطوم عام 1903 لإعداد ضباطٍ سودانيين للجيش المصري. مثّلت المدرسة مساراً ثانوياً مكثَّفاً، إذ اشترطت إكمال التعليم الأولي والنجاح في اختبارات قبول دقيقة. من أشهر خريجيها علي عبد اللطيف (دفعة 1913)، الحاصل على «ميدالية السردار » وأحد قادة حركة 1924. أُغلق القسم العسكري إثر تلك الخركة ، ونُقل التعليم العسكري لاحقاً إلى مواقع أخرى.

بواكير التعليم العالي: المدارس العليا (1924 – 1950)

تزامن إلغاء الجناح العسكري مع انطلاق مرحلةٍ جديدة تمثّلت في إنشاء مدارس عليا متخصّصة ارتبطت أكاديميّاً بكلية غوردون، ومنها:

 مدرسة كتشنر للطب (1924) أول مدرسة طب سودانية.

 مدرسة القانون (1936) – لتخريج القضاة والمحامين والإداريين.

مدرسة الزراعة والطب البيطري (1938) – لخدمة مشاريع الري والإنتاج.

مدرسة العلوم والهندسة (1939) – لتدريس الفيزياء والكيمياء والهندسة المدنية.

 مدرسة الآداب (1940) – لتدريس التاريخ واللغات والفلسفة والجغرافيا.

وفي 1945 وُقِّعت «اتفاقية العلاقة الخاصة» مع جامعة لندن، فأضحى طلاب هذه المدارس يُمتحنون وفق معاييرها ويحصلون على شهاداتها، وكانت دفعة 1950 أول مَن نال تلك الدرجة.

التحوّل إلى جامعة وطنية (1951 – 1956)

بمرسومٍ صدر في 1 سبتمبر 1951 زمن الحاكم العام سير جيرالد هاو، دُمجت مدارس غوردون العليا ومدرسة كتشنر للطب في كيانٍ واحد: كلية الخرطوم الجامعية (University College of Khartoum) فرعاً تابعاً لجامعة لندن. 

وبعد استقلال السودان، أقرّ البرلمان في 24 يوليو 1956 قانون تحويل الكلية إلى جامعة الخرطوم؛ أول جامعة سودانية مستقلة تشريعاً وإدارةً ومناهج.

أبرز خريجي غوردون في مراحلها الأولية والثانوية

 قبل أن تغدو جامعة، أنجبت الكلية عدداً من القادة والمفكرين:

 الجنرال إبراهيم عبود أحمد – أول رئيس عسكري للسودان (1958 – 1964).

علي عبد اللطيف – زعيم حركة 1924.

 أحمد محمد صالح – شاعر النشيد الوطني وعضو مجلس سيادة سابق.

 أحمد محمد ياسين – عضو مجلس سيادة سابق، خريج الهندسة.

 محمد أحمد محجوب – رئيس وزراء ووزير خارجية ساق ومفكر سياسي.

 بابكر عوض الله – رئيس وزراء ثورة مايو.

 سِرّ الختم الخليفة – رئيس وزراء سابق.

هؤلاء وغيرهم جسّدوا دور غوردون بوصفها رافعةً لتشكيل النُّخَب العسكرية والإدارية والفكرية في السودان الحديث.

 

مختبر صناعة النخب 

منذ افتتاحها عام 1902 وحتى تحوّلها إلى جامعة الخرطوم في 1956، مثّلت كلية غوردون التذكارية مختبراً لتكوين النُّخَب السودانية، ومسرحاً لتفاعل قيم الحداثة البريطانية مع الآمال الوطنية الصاعدة. تاريخها يُجسِّد مسيرة الدولة السودانية في انتقالها من الحكم الثنائي إلى الاستقلال، بقدر ما يلقي الضوء على الأسئلة المعلَّقة حول المعرفة والسلطة ودور التعليم في بناء الأمة. 

إنَّ فهم هذا المسار لا يُعدّ ترفاً أكاديمياً، بل مفتاحاً لقراءة حاضر السودان ومستقبله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى