
رمي محمود درويش بسؤال عريض مدهش وعميق، قائلا: ”هل في وسعك ان تكون طبيعيا في واقع غير طبيعي؟”.
ومن المفارقة أن منطقة الواقع غير الطبيعي هي بالضبط المجال الحيوي لممارسة مهنة الصحافة.
ومن هنا ربما نشأ وصفها بمهنة البحث عن المتاعب.
وبالعودة الي سؤال درويش يقفز الي الذهن سؤال آخر: “هل يصبح من يرتادون مثل هذا الواقع غير الطبيعي علي الدوام وباستمرار تمليه طبيعة هذه المهنة المقدسة، أناسا طبيعيين وعاديين كسائر الناس في الحياة.
فالصحافة مهنة مميتة وقاتلة، وان لم يخطر علي بال الشاعر العباسي، إبن نباتة السعدي، أنها من أسباب الموت المؤكدة في بيته المشهور: “ومن لم يمت بالسيف مات بغيره.
تتعدد الأسباب والموت واحد”.
لكن في ظني أن الصحافة من أسباب الموت البطيء الذي قد يبدو للناس مفاجئا حين وقوعه، فالصحفي يموت هكذا واقفا بلا مقدمات وربما بصورة مباغتة، كصورة رحيل عملاق الصحافة السودانية “حسن ساتي” وفرشاته ترسم لوحة الميلاد الجديد لصحيفة “آخر لحظة”.
علي أية حال، تشير نتائج دراسة إستمرت 17 سنة شملت 140 الف شخص يمارسون مهنا مختلفة، نشرها علماء معهد “قوانغتشو” الي أن من أخطر المهن علي صحة وحياة الانسان مهنة الصحافة.
إذ لا يقتصر خطر هذه المهنة علي حياة من يقومون بتغطية مناطق الأحداث والحروب والكوارث فحسب، بل أن آثار التوتر النفسي الناجم عن ضغط العمل الصحفي المستمر من شأنه أن يؤدي لإصابة الصحفيين بالجلطات الدماغية أو السكتات القلبية، وبقائمة طويلة من الأمراض التي لا حصر لها.
ذلك فضلا عن مهددات سلامة الصحفيين في بيئات العمل الخطيرة.
ورغم كل هذه المخاطر والصعوبات وتحديات الضغوط السياسية والاقتصادية والقيود علي الحريات، وظروف العمل القاسية يظل من اختاروا هذا الطريق الوعر يعملون علي توفير المعلومات والتحليل والنقد وتمكين الناس من المشاركة في الحياة العامة.
لتبقي لعبة فض المغاليق، ونزع الحجب، واماطة اللثام، وإزاحة النقاب، وإسقاط الأقنعة هي لعبة الصحفي المفضلة
وبالتالي فإن مهنة المتاعب ستظل هي مهنة المتاعب، رغم التسهيلات الهائلة التي قدمتها التكنولوجيا الحديثة، وثورة الاتصالات الرقمية، ونشوء مجتمعات المعلوماتية المتطورة.